يربط الإمام محمد عبده مفهوم الوحدة الوطنية بإشراقات الوعي الديني وتجليات الوعي السياسي على إيقاع التناغم بين الدين والسياسة في حضرة الوطن.. وعنده أن اتباع ثمر المدنية الحديثة إنما تمتع به الأوروبيون ببركة التسامح الديني المسيحي، وعنده أن الدولة المدنية لا تتنافى مع جوهر الإسلام وعقيدته في الإصلاح والتجديد وعلى إيمانه بمشروع الدولة الحديثة. صاغ الأستاذ الإمام دستور الحزب الوطني (1881) داعياً إلى تأليفه من كل مصري يهودي أو مسيحي أو مسلم، ومن كل من يحرث أرض مصر، ليؤسس مفهوم الأخوة في الوطن بروح الشريعة المحمدية نفسها ولقد كتب الأستاذ الإمام في بواكير أعماله الفكرية في بيروت داعياً إلى تقديس الوحدة الوطنية بقوله:«إن التحامل على شخص بعينه لا ينبغي أن يُتخذ ذريعة للطعن في طائفة أو ملة أو أمة وليس من اللائق بأصحاب الجرائد أن يعمدوا إلى إحدى الطوائف المتوطنة في أرض واحدة فيستعملوها بشيء من الطعن أو ينسبوها إلى شائن العمل تعللاً بأن رجلاً أو رجالاً منها قد استهدفوا لذلك».
كذلك يتآخى الدين والعقل في كتاب الوطن فإن جاءت المسيحية أو الإسلام بشيء قد يعلو على الفهم فلا يمكن أن يأتيا بما يستحيل على العقل في تأسيس المجتمعات والأوطان.. فلم يرفض الأستاذ الإمام من المسيحية التاريخية إلا مسيحية القرون الوسطى ومحاكم التفتيش، ولم يحمل الأستاذ الإمام على الإسلام التاريخي كما حمل على إسلامية العنف والتطرف وسفك الدماء فلا إكراه في الدين ولا ظلامية في الدين.. ولا عصبوية أو تعصب في دين الله الذي يتسع للجميع وأراني لا أخالف الإمام في كثير من أفكاره وفتاواه إلا في مقالته بأن الشرق بحاجة إلى مستبد عادل حيث لا يستقيم عندي مفهوم العدالة مع الاستبداد.. ولقد عبّر العلاّمة المسيحي يعقوب صرّوف تعبيره الصادق عن شعور فضلاء المسيحيين يوم قال ساعة دفن الأستاذ الإمام لمن حوله من تلاميذه: «إني أسمعكم تقولون فقيد الإسلام والمسلمين ولا تزيدون.. إنه فقيد الفكر والعلم حيث كان.. إنه فقيدنا أجمعين..» ويكاد العقاد يمسك بالحلقة المفقودة التي توّجت فكر الإمام ومنهجه في الوحدة والإصلاح والتجديد فيرى أن يسمي فلسفة الإمام في لبابها - فلسفة أخلاقية- لا تفرق بحال بين مشاكل السياسة والاجتماع والاقتصاد وبين مشاكل الأخلاق. وعلى مفاتيح هذه الأخلاق يناقش الإمام الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر (سنة 1903) إذ قال له الفيلسوف: «إن الإنكليز يرجعون القهقرى فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ عشرين سنة فسأله الأستاذ الإمام: وفيم هذه القهقرى؟ قال سبنسر: إنهم يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة وسببه تقدم الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا ثم سرت إلينا عدواها فهي تفسد أخلاق قومنا وهكذا سائر شعوب أوروبا ثم قال: إنه لا أمل في صدِّ هذا التيار لأنه لا بد أن يأخذ مدّه إلى غاية حدّه في أوروبا التي ترى أن الحق عندها للقوة..»
وفارق الأستاذ الإمام دار الفيلسوف وهو يدير في خاطره كلمة - الحق للقوة - ويصف أثرها في نفسه ويحسّ أنها ما كانت لتحدث لديه هذا الأثر العميق لو جاءت من ثرثار يهرف بما لا يعرف ثم يدوِّن هذه الخاطرة في مذكراته: آه من يجلو ذلك الصدأ الذي غشى الفطرة الإنسانية، ومن يصقل تلك النفوس حتى يعود لها لمَعَانها الروحي؟!..
فأين الدواء.. الرجوع إلى الدين.. ولعل الأستاذ الإمام وقد انتهى إلى حل أزمة الحضارة بالرجوع إلى الدين قد وقف طويلاً على باب الدين فلم يجتمع في يديه من ميراث الدين إلا أن يصلح التنازع في الدين وعلى الدين بمصباح العقل والحكمة الصافية تضيئه ويضيئها ولو لم تمسسه نار..
كذلك عاش الإمام محمد عبده غريباً في وطنه وحيداً في جميل الصبر على جوهرة الوطن يفتح معنى بلاغة المقاومة في استحضار شروطها بقوة مناعة الفكر والهوية وبقوة العلم الذي يجب أن يبتدئ من مفتاح تحرير المرأة في أمة لا تشكو إلا من احتجاب نسائها عن حركة الإصلاح والتجديد. وفي أمة لا تشكو إلا من احتجاب رجالها ونسائها عن معنى الهوية والوطن.

الشيخ حسين أحمد شحادة