لست واحداً من مؤيّدي بشير الجميّل أو أيّ من قادة الحروب اللبنانيّة، لكنّني أعرف أنّ للجميّل محبّين كثيرين يبغون تكريمه، مثلما هناك محبّون لأنطون سعادة وكمال جنبلاط وموسى الصدر وسواهم ممّن يريدون أيضاً تكريمهم.


وطبيعيّ أن ينشأ مثل هذا التباين في مجتمع تعدّديّ، والأكثر طبيعيّة أن يحقّ لكلّ جماعة من الجماعات أن تكرّم من تريد تكريمه حتّى لو كرهته الجماعة الأخرى وصنّفته في خانة العدوّ.


ولا نأتي بجديد إذا قلنا إنّ اللبنانيّين يتجاوزون التعدّديّة إلى عدم الاتّفاق حول معاني "الوطنيّ" و"الخائن" بنتيجة عدم اتّفاقهم حول معنى لبنان نفسه. أمّا الذي يفترض أنّ حقيقته هي وحدها الحقيقة فإنّما يستعجل تعليبنا في إيديولوجيا رسميّة تسقط قمعيّاً من الأعلى، وهو ما رأيناه في سنوات الوصاية السوريّة ممثّلاً بإيديولوجيّة "عروبة لبنان" التعيسة.


لهذا فما فعله القوميّون السوريّون حين تصدّوا لتكريم بشير الجميّل في الجامعة الأميركيّة، من قبل طلاّب كتائبيّين وقوّاتيّين، كان عملاً مستهجناً وغير مقبول.


والشيء نفسه كان سيقال عن الكتائبيّين والقوّاتيّين لو أنّهم تصدّوا لمحاولة تكريم لأنطون سعادة.


لكنّ هذا السلوك يقوم على فرضيّة قَبَليّة وبدائيّة قد يتشارك فيها جميع اللبنانيّين، مفادها إلحاق المكان على نحو حصريّ بالجماعة أو بالعشيرة التي ترفض أن يشاركها "آخر" في آبار مائها وحقول رعيها.


بيد أنّ ما يفاقم البدائيّ في سلوك كهذا أنّ المكان هذه المرّة ليس "عرزال الزعيم" في ضهور الشوير، بل هو الجامعة الأميركيّة في بيروت التي يُفترض أن المعايير التي تتحكّم بعملها غير المعايير التي تتحكّم بملكيّاتنا العشائريّة الحصريّة. وإنّما بفعل هذا الاختلاف في المعايير، تمكّنت الجامعة المذكورة من العيش 150 سنة، تحتفل بمرورها هذا العام، في منطقة لا يعيش فيها أيّ شيء أكثر من سنوات قليلة. وهو ما يسمح بالمطالبة بوقف القانون الخلدونيّ عند أبواب الجامعة الأميركيّة وعدم تصديره إليها.


والحال أنّ النزاع الكتائبيّ – القوميّ يبدو برمّته عتيقاً وخارج السياق، نظراً إلى ضعف صلته بكلّ ما هو راهن في السياسات اللبنانيّة وانقساماتها. ويكاد المرء أن يقول إنّ هذين التنظيمين، بسبب ضعفهما وهامشيّتهما، هما الوحيدان اللذان تستطيع قوى الأمن أن تتدخّل اليوم في نزاع ينشب بينهما. والأمر ذاته ينسحب على الموقف من تكريم بشير الجميّل الذي لم يعد يرفضه أو يمانعه أيّ من الأطراف الطائفيّة الأساسيّة التي لم يعمد أيّ منها إلى استضافة حبيب الشرتوني على لائحة شهدائه. لهذا السبب رأينا الطلاّب المنتسبين إلى حركات فاعلة كـ "حزب الله" و"أمل" يتصرّفون بحياديّة كاملة حيال خلاف لا يعنيهم.


وليس بلا دلالة أن يستعيض الحزب السوريّ القوميّ، وهذه حاله دائماً، عن نقص تأثيره في الواقع الراهن بتأبـيد الاغتيالات التي نفّذها وشكّلت جلّ إسهامه في سياسات المتن العريض، ومن ثمّ بتحويلها إلى تراث سياسيّ.


أليس رفع الماضي هادياً وحيداً للمستقبل، بعد حصر هذا الماضي نفسه في عمليتي عنف أو ثلاث، دليلاً على أزمة وجود عميقة لا يكفي لتبديدها الالتحاق بالنظام السوريّ، في حربه كما في سلمه؟

 

 المصدر: ناو