لم يتأخر الوقت حتى اتضحت الصورة. تبين ان رئيس الحكومة السابق سعد الحريري وأشقاءه هم مالكو عقارات الرملة البيضاء الأصليون، أو بالأحرى مالكو الأملاك العامة التي أصدرت بلدية بيروت قرارا بشرائها بمبلغ 120 مليون دولار، كان سيذهب بالنهاية، كلياً او جزئياً إلى جيوب آل الحريري. أما رجل الاعمال وسام عاشور فيبدو الواجهة، بحسب ما اظهرته وثائق ووكالات قانونية حصلت عليها «الأخبار»   الكتاب الموجه الى رئيس بلدية بيروت بلال حمد (بتاريخ 19/4/2016) بشأن سعر متر عقارات الرملة البيضاء، التي قررت بلدية بيروت قبل أسبوعين شراءها (قدّر المالكون سعر المتر الواحد بـ4300 دولار) يحمل توقيع وليد محي الدين سبع أعين، لا توقيع المالك العلني، أي رجل الاعمال وسام عاشور. وهنا تبدأ القصة الحقيقية لصفقة الرملة البيضاء. فوليد سبع أعين هو المسؤول المالي الخاص للرئيس الحريري، ويصادف انه صهر رئيس بلدية بيروت بلال حمد في الوقت نفسه.

اما لماذا تقدم هو بالطلب الى بلدية بيروت، فذلك يعود الى كون عاشور نظّم لمصلحة سبع أعين «توكيلاً عاماً شاملاً مطلقاً» يتيح له التصرف بكل ممتلكات عاشور من «بيع العقارات وأجزاء العقارات والأموال المنقولة، التي يملكها الى شراء وبيع ورهن وتأمين وقبول الرهونات والتأمينات على كافة الأموال الثابتة والمنقولة، وادارة الأملاك وتأجيرها، الى حق قبض الثمن والاقرار بوصوله واجراء معاملات نقل الملكية والفراغ والتسجيل على اسم من يريد، حتى لأقرب المقربين، الى الاستلاف على حسابه ومطلق مسؤوليته من أي كان لما يشاء من المبالغ، والتأمين على أملاكه، ضمانا لدين يستلفه الغير أو الوكيل بالذات»، بحسب ما يرد في نص التوكيل الذي حصلت «الاخبار» على نسخة منه.

كما يتيح التوكيل التعاقد مع أي مصرف كان والاقتراض ورفع السرية المصرفية وإيداع وسحب وقبض الأموال وصولا الى بيع وشراء الأسهم في شركة سوليدير. وهي وكالة أعدها كاتب العدل في بيروت شكيب حسين جعفر يوم الأربعاء الواقع في 23 آذار من عام 2016.   قريبون من شركة عاشور برروا الوكالة المذكورة بأنها «نتيجة اتفاق بينه وبين آل الحريري، خلفيته أنه لا يزال لفهد الحريري في ذمة عاشور نحو 35 مليون دولار من ثمن الأرض.

وهو لا يملك السيولة الكافية لسدادها، فجرى الاتفاق على ان يترك امر اتمام عملية استملاك العقارات (أي العقارات الثلاثة على شاطئ الرملة البيضاء) الى الرئيس سعد الحريري؛ على أن يحصل عاشور على بقية المبلغ المقدرة بنحو 75 مليون دولار».   تسجيل عقارات الرملة البيضاء باسم شركة عاشور يبدو «تخريجة» تحفظ ماء وجه الحريري   وأوضحت المصادر «وجود عقود للبيع بين عاشور وآل الحريري تثبت ملكيته، وأن هناك مصارف ساعدت على توفير التمويل من خلال قروض لعاشور وشركته».   كلام المصادر يؤكد مجددا أن عاشور مجرد واجهة لـ آل الحريري.

فعاشور لم يحدد التوكيل بالعقارات الثلاثة فقط حتى تسديد المبالغ الباقية عليه لفهد الحريري، بل ذهب أبعد من ذلك بكثير، حدّ توكيل أحد معاوني الرئيس الحريري التصرف كما يشاء بكل أموره بما فيه الاقتراض من المصارف. وهو ما يقود الى الاستنتاج بأن عاشور يتولى ادارة جزء من اعمال الحريري.   أما تسجيل عقارات الرملة البيضاء، التي يُفترض أن تكون أملاكا عامة يستفيد منها البيارتة واللبنانيون عموما باسم شركة عاشور، فيبدو انه كان «تخريجة» تحفظ ماء وجه الحريري أمام أهالي العاصمة وناخبيه. وهذا امر تؤكده مصادر القوى المعترضة على الصفقة، ومنها الرئيس نبيه بري. ثم ان الصفقة لو جرت الان، فهي تتيح للحريري الحصول على ما يعينه في مواجهة ازمة السيولة التي يواجهها.  

المشاركون في انجاز الصفقة كثر. فالى جانب سبع أعين والحريري وحمد يظهر ان للمطران الياس عودة والمحافظ زياد شبيب دورهما ايضا. الثابت أنه لولا الأخيران لما كانت الصفقة ستمر، فالمحافظ دأب منذ استلامه مهماته على وضع حدود لـ»شطحات» بلال حمد، ولكن قبل اسبوعين تبدلت المعطيات وبات شبيب، الحريص على التدقيق في أصغر تفاصيل قرارات المجلس البلدي، يغسل يديه من مسؤولياته، ويشكك في صلاحياته لدرجة وصف نفسه بـ «ساعي بريد». تلطى المحافظ خلف مادة قانونية تحمل الرقم 56، وتقول إن الرقابة الإدارية تمارس على قرارات مجلس بلدية بيروت من قبل وزير الداخلية فقط. واسقط من حساباته المادة 61 التي توضح بشكل لا يحتمل اللبس أن قرار شراء العقارات أو بيعها التي تزيد قيمتها على 100 مليون ليرة ودفاتر الشروط الخاصة العائدة لها تخضع لتصديق المحافظ.

ولا يمكن بحسب المادة 111 ملاحقة الرئيس أو نائبه أو العضو البلدي جزائياً من أجل جرم يتعلق بمهماتهم، إلا بناءً على موافقة المحافظ الخطية.

  سلوك المحافظ الملتبس تفسره مصادر متابعة للملف، بضغط كبير تعرض له الأخير من المطران عشية تأليف «لائحة البيارتة» التي رأسها المدير العام لـ»سوليدير» جمال عيتاني. فتسمية المطران عودة لإيلي أندريا لمنصب نائب الرئيس اثارت حفيظة تيار «المستقبل» نظرا الى أن أندريا موظف سابق في البلدية، لمدة تقارب العشرين عاما، وسبق أن اعرب رئيس المجلس بلال حمد عن امتعاضه منه مرارا، ولا سيما بعد تعيين المحافظ له مديراً لمكتب الهندسة.

ولأنه «لا قدرة للحريري على تحمل «فيتويات» المحافظ وأندريا على كل قرار بلدي لا يستوفي الشروط المناسبة»، قوبل طلب المطران بالرفض. غير أن عودة أصر على اختيار شقيق سكرتيرته الخاصة ومديرة أعمال مطرانية بيروت (أي اندريا)، فكان «الاتفاق» على أن يتنازل الحريري عن منصب نائب رئيس البلدية لمصلحة أندريا، مقابل موافقة المحافظ على صفقة الرملة البيضاء.

وهو ما حصل تماما حين أرسل المحافظ الى المجلس البلدي قبل أيام مسودة قرار شراء العقارات، فجرى اقرارها بسلاسة تامة في جلسة المجلس أول من أمس. علما أن المحافظ نفسه كان قد تصدى لتسييج العقارات نفسها من قبل «مالكيها» في حزيران 2015، مستنداً (في كتاب أصدره يوم 8/6/2015) الى المادة الأولى من القرار التشريعي الرقم 144/س تاريخ 10/6/1925 لتأكيد عموميتها وأنها لا تباع ولا تكتسب ملكيتها بمرور الزمن.  

وكان وزير الأشغال العامة والنقل غازي زعيتر قد استند حينذاك الى كتاب شبيب، وأرسل نسخة منه الى وزارة الداخلية لتدعيم قرار منع التسييج وعدم اقفال المسبح المجاني للعموم أمام رواده. مع الاشارة الى ان الرئيس بري طلب الأسبوع الماضي من زعيتر، بصفته الوزير الوصي على الأملاك البحرية، التحرك بعد عطلة عيد الفصح لاستعادة الأملاك العمومية عبر القانون.

وسيطلب زعيتر من وزارة المالية اتخاذ الاجراءات الآلية إلى اعتبار العقارات أملاكا عامة للدولة، ما يرفع سلطة بلدية بيروت أو المحافظ عنها. ويفترض بالأمر أن يعطل الصفقة ويعيق تبديد 120 مليون دولار من أموال سكان العاصمة، ويحول الملف على القضاء.

فبري أوعز أيضا الى النيابة العامة المالية طلب نسخة عن محضر اجتماع مجلس بلدية بيروت الذي أصدر فيه قرار شراء العقارات الثلاثة.

  (الاخبار)