لم تعد بعض الأوساط اللبنانية المعنية برصْد التطورات السلبية التي تطبع واقع المؤسسات الدستورية من حكومة ومجلس نواب ووزارات وإدارات رسمية تتعامل مع تنامي ظاهرة الفساد المتفشية في غالبية هذه المؤسسات من منطلق كونها من حواضر الطبقة السياسية فقط، بل بدأت مخاوفها حيالها ترقى الى مستوى موازاة ما ترتّبه هذه الظاهرة من خطر تقويض النظام الدستوري بفعل الفراغ الرئاسي القائم منذ سنتين.

وتفيد هذه الاوساط في معرض تعليقها على آخر تمظهرات الصراع داخل السلطة على خلفية ملفات الفساد، والتي تمثّلت في انفجار خلاف حاد بين وزير الداخلية نهاد المشنوق وزعيم «الحزب التقدمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط، بأن «هذا الجانب ينطوي على الأثر العميق لصراع النفوذ الذي تمدّد من كشْف فضيحة شبكات الإتجار بالبشر والانترنت غير الشرعية التي باتت في عهدة القضاء، الى فضيحة أكبر داخل مؤسسة قوى الأمن الداخلي مع ملف اختلاسات كبيرة».

وكان جنبلاط مبادِراً في كل مرة الى الهجوم على رموز محسوبين على «تيار المستقبل» مثل المدير العام لمؤسسة «أوجيرو» عبد المنعم يوسف ومن ثم المشنوق نفسه، الى ان بلغ الأمر بوزير الصحة وائل ابو فاعور، المقرب جداً من جنبلاط، ان وجّه اتهامات نارية إلى وزير الداخلية، في جلسة مجلس الوزراء، اول من امس، وفي غياب الأخير عن الجلسة، ليتبيّن ان هجمات جنبلاط المتواصلة على المشنوق ترتكز في جانب منها على تَحسُّس من ممارسات للتضييق على بعض المحسوبين عليه من قبل وزير الداخلية، وهو ما كان عبّر عنه الزعيم الاشتراكي صراحةً من خلال إثارته موضوع التعرض لقائد الشرطة القضائية العميد ناجي المصري، متهماً ضمناً المشنوق بالعمل على استبداله.

وبعدما كان المشنوق نفى وجود اي نية لاستبدال المصري، ردّ أمس، بطريقة غير مباشرة، على جنبلاط وابو فاعور، مستعيناً بمقال نُشر في إحدى الصحف، تهاجم كاتبته بعنف زعيم «التقدمي»، واختار وزير الداخلية منه عبارة «هذا هو وليد جنبلاط أحد أكبر وأعتى رموز الفساد في تاريخ لبنان» ليجعلها عنوان تغريدته عبر صفحته على «تويتر» التي أرفقها برابط المقال وصورة لجنبلاط مع كلبه «أوسكار»، وذلك بينما كان يتم «إخراج» عبد المنعم يوسف من جلسة لجنة الاعلام والاتصالات النيابية التي كانت تناقش فضيحة الانترنت غير الشرعي، وذلك بناءً على طلب أبي فاعور الذي اعتبر انه «متّهَم ومشتبه به».

ولا يقف الأمر عند هذا الاشتباك السياسي وحده، إذ ترى الأوساط اللبنانية المعنية ان «قضية أمن الدولة (رسم مجلس الوزراء، اول من امس، اطاراً قانونياً لمعالجتها بمتابعة مباشرة من الرئيس تمام سلام) التي أثارت اعتراضات مسيحية واسعة بعدما جمّد وزير المال علي حسن خليل المخصّصات السرّية للجهاز بحجة خلاف قديم بين مدير الجهاز الكاثوليكي ونائبه الشيعي، تنطوي على خلفية أبعد أثراً، تتصل بالصراع القوي بين رئيس مجلس النواب نبيه بري (خليل محسوب عليه) ورئيس (تكتل التغيير والاصلاح) العماد ميشال عون، باعتبار ان بري من أقوى المناهضين لانتخاب عون رئيساً للجمهورية، وبات يجاهر بتأييد خصم الأخير، اي النائب سليمان فرنجية. كما ان ثمة قضايا وملفات أخرى (تتناسل) وتتراكم كالفطريات يوماً بعد يوم، وترسم صورة شديدة القتامة على مجمل المشهد اللبناني السياسي والرسمي، الأمر الذي بات ينذر بدفع الامور الى متاهات شديدة الأذى على لبنان».

وتضيف الأوساط نفسها ان «سنتين من عمر الفراغ الرئاسي وضعتا لبنان الآن أمام شبه حصار خليجي وعربي بفعل سياسات (حزب الله) الاقليمية من جهة، وأدتا في المقابل الى انفجار صراعات جانبية داخل السلطة على خلفية تفشي الفساد من جهة أخرى، الأمر الذي يتهدد البلاد واقعياً بفقدان آخر قدراته على الصمود أمام تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ذلك ان أحداً لا يجهل ما يعنيه حلول موسم الاصطياف المقبل والبلاد تمرّ في إحدى أسوأ أزمات الركود التي تعانيها مختلف القطاعات، فيما أهل السلطة والسياسة لاهون عن الاستحقاقات المقبلة الجسيمة، بصراعات على تقاسم جبنة الفساد، وما تبقى من عافية في البلاد. وها هو الخلاف على انعقاد ما يسمى جلسات تشريع الضرورة لمجلس النواب التي يمكن ان تمثّل فسحة ملحّة لتمرير مشاريع حيوية، يهدد بتعطيل هذه الجلسات ايضاً، نظراً الى ربْطها باشتراطات تتعلق بقانون الانتخاب الجديد، الذي يبدو شبه مستحيل التوصل الى توافق عليه راهناً».

وفي ظل هذا المشهد، لا تخفي الأوساط خشيتها المتنامية من ان يكون ثمة دفعٌ منهجي لانهيارات داخلية تُطبخ على نارها مشاريع يرفضها أفرقاء كثيرون، ولكن المضي في صراعات النفوذ المتصلة بظواهر الفساد من شأنه ان يسهّل مخططات الذين يتربّصون بلبنان لتبديل نظامه او فرض أمر واقع غامض عليه في لحظات اقليمية وداخلية مواتية. وتعتبر ان «هذه الصراعات سواء أكانت بفعل تفشي الفساد وانعدام الرقابة السياسية وتراخي الرقابة القضائية، ام بفعلٍ مقصود، فإنها ستؤدي الى نتيجة واحدة، هي جعل لبنان امام واقع شديد الهشاشة، يسهل معه تمرير ما صعب تمريره سابقاً، إذ إن مرحلة الفراغ الرئاسي بدأت تسجل أرقاماً قياسية في ظاهرة استغلال السلطة واتساع الفساد، لم يسبق أن عرفها لبنان في أحلك ظروفه سابقاً».