تثبت المداولات التي سبقت قمة دول منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول حول العلاقات الإيرانية-العربية، أن ثمة تعديلا في المناخ الدولي الانفتاحي تجاه طهران الذي أشاعه مجيء الرئيس حسن روحاني إلى الرئاسة منتصف عام 2013، ثم توقيعها الاتفاق على ملفها النووي في الصيف الماضي بينها وبين الدول الكبرى وكرسه مجلس الأمن، وبعد سلسلة الزيارات التي قام بها روحاني إلى الدول الغربية، وكمية الاتفاقات الاقتصادية التي وقعتها طهران مع هذه الدول بعشرات بلايين الدولارات، فضلا عن الزيارات المتوقعة من قادة غربيين للعاصمة الإيرانية.

ومع أن فقرات البيان الختامي للقمة التي تدين التدخلات الإيرانية في الدول العربية لا تغير شيئا في وقائع الجغرافيا السياسية للصراع الدائر على امتداد الشرق الأوسط مع التمدد الإيراني، فإن هذه الفقرات تعبر عن التعديل في هذه الوقائع على امتداد السنة الماضية، وتحديدا منذ القرار السعودي التصدي العسكري لرعاية طهران انقلاب الحوثيين وعلي عبدالله صالح على الشرعية في اليمن، وسعيها لتهديد أمن المملكة العربية السعودية.

لم يكن اجتماع قادة المنظمة، الثانية في الأهمية على المستوى العالمي بعد الأمم المتحدة، ليثير هذا المقدار من الاهتمام لولا جملة عوامل، أهمها أن ما يشبه الإجماع أخذ في التبلور ضد السياسة الإيرانية التوسعية.

وإذا كان حضور الرئيس روحاني القمة أمس، والذي فاجأ بعض الحضور الذين توقعوا غيابه عن منتدى عالمي يدين تدخلات بلاده ويحاصرها على المستوى الديبلوماسي ويتهمها بخرق مبادئ حسن الجوار وميثاق الأمم المتحدة، محاولة منه لاستغلال العلاقة الإيجابية مع رئيس القمة رجب طيب أردوغان لتعديل رفض 56 دولة إسلامية سياسات إيران الاقتحامية لسيادة عدد من هذه الدول وأمنها تحت لافتة الإسلام وتصدير الثورة و "نصرة المظلومين في العالم"، إلا أن ذلك لن يبدل كثيرا في المشهد.

أثبت الإصرار السعودي على مواجهة التوسع الإيراني أن أسلوب "الإغواء" الذي اعتادته طهران عبر ابتسامة وزير الخارجية محمد جواد ظريف وروحاني تارة، وأسلوب التمسكن والتظلم الذي اتبعته في حملتها الدعائية، بالتوازي مع غطرسة قادة الحرس الثوري لفرض هيبة القوة على سائر دول المنطقة، والتي كانت مفيدة لفترة، لم تعد نافعة إسلاميا ودوليا. كما ثبت أن سياسة الترهيب التي تعتمدها لم تنفع في حمل عدد من الدول التي طلبت الديبلوماسية الإيرانية منها التحفظ عن إدانة التدخلات الإيرانية في البيان الختامي (ومنها الدولة الضعيفة لبنان)، فلم يأخذ أي من هذه الدول بالطلب الإيراني.

باتت طهران التي كانت تطمح إلى تزعم العالم الإسلامي بفعل ما حققته من مكاسب على مدى العقود الماضية، في موقع الدفاع عن نفسها في منظمة التعاون الإسلامي، بموازاة صد تدخلها في اليمن من دون إشراكها في الحل السياسي الذي كانت تدعي القدرة على المساعدة فيه اعتمادا على الأذرع التي اصطنعتها هناك (تبدأ المحادثات في شأنه في الكويت الاثنين المقبل لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2216). كما أصبحت طهران بحاجة إلى إرسال مزيد من القوات إلى سورية وتكبد الخسائر البشرية، لتفادي الخسارة السياسية والدفاع عن مكاسبها بالإمساك بورقة الحرب السورية.

وهي تعتقد أن باستطاعتها أن تستلحق إمكان نجاح الجهود الديبلوماسية في تقليص إمساكها بورقة سورية، إذا تكرس نجاح موسكو في تثبيت التسليم الأميركي بأحقيتها في النفوذ على بلاد الشام.

ومن بين العوامل التي أزعجت إيران، النجاح السعودي في التفاعل مع الجهود الأميركية- الروسية لولوج الحل السياسي، على رغم خرق الهدنة من قبلها ومن قبل بشار الأسد. فالسعودية، مع دعمها المعارضة السورية ومطلبها إسقاط الأسد، لعبت الدور الرئيس في توحيد فصائل المعارضة السياسية والعسكرية في الوفد المفاوض، كما باشرت في تشكيل قوة إسلامية لمحاربة الإرهاب.

كرست قمة إسطنبول زعامة السعودية لمنظمة التعاون الإسلامي بعمل دؤوب، فهي انعقدت بزخم القمتين المفصليتين السعودية- المصرية والسعودية- التركية اللتين أطلقتا مرحلة جديدة من التعاون مع أكبر دولتين إسلاميتين في المنطقة.

وإذا كانت طهران اعتمدت، من أجل توسيع نفوذها، على الانكفاء الأميركي في المنطقة نتيجة تجنب باراك أوباما التدخل العسكري في أزماتها والتوجه إلى شرق آسيا، فإن انخراط السعودية الفاعل في الصراع يحتم على الرئيس الأميركي البحث عن مقاربة جديدة غير تلك التي كشفها لمجلة "أتلانتيك"، بأن على "السعوديين أن يتقاسموا الشرق الأوسط مع إيران".

وما ترمز إليه قمة إسطنبول يصعب على أوباما تجاهله خلال لقائه قادة الخليج في 21 الجاري في الرياض، مثلما بات على إيران أن تبحث عن تموضع جديد بدل دفن الرؤوس الحامية لقادتها في الرمال.