حين ننظر إلى الوراء، القريب منه والأبعد نسبيّاً، تواجهنا ثلاث مسائل مستقلّة، وإن كانت مترابطة في النهاية، يطرحها التغيير السوريّ ويرتهن نجاحُه على المدى البعيد بوحدتها وتماسكها.

 

 

فأوّلاً، هناك مسألة الاستبداد الذي يستحيل في ظلّه إنجاز أيّ تقدّم اجتماعيّ أو مجتمعيّ من أيّ نوع، خصوصاً أنّنا هنا نتحدّث عن نظام بالغ التدخّل في الاجتماع والثقافة، وصارم التكييف بل المصادرة لهما، بما لا يتيح المجال، ما استمرّت قبضته، لأيّ رهان على مساواة المرأة بالرجل أو الإصلاح الدينيّ أو العلمنة.

 

 

وثانياً، هناك المسألة الثقافيّة، كالمساواة الجندريّة والعلمنة، والدفاع عن الأقلّيّات، التي لا يستقيم الصراع ضدّ الاستبداد ولا يكتمل من دون التصدّي لها ولبطنها الاستبداديّ الخصب المقيم في المجتمع نفسه، وإن استخدمته السلطة ووظّفته بما يلائمها.

 

 

وثالثاً، هناك النظام القرابيّ وامتداده الموسّع في النظام الطائفيّ، ممّا لا يُكافح إلاّ بالتشديد على مبادئ الوطنيّة والمواطنة، واستخلاصها من الولاءات الإيديولوجيّة المتوهّمة (أمّة عربيّة، أمّة إسلاميّة إلخ...)، ومن المعارك والتدخّلات العابرة للحدود الوطنيّة التي لا تنعكس على الداخل الوطنيّ إلاّ مزيداً من المخاوف والمحاذير الأهليّة المتبادلة.

 

 

والحال أنّ التقطّع والتقطيع هما على الدوام سمة العلاقة السوريّة بين هذه المسائل الثلاث. فأغلب المشتغلين على المسألة السياسيّة، أي مسألة الاستبداد، لا يعيرون وزناً للمسألة الثقافيّة، وحين يكون هؤلاء من الإسلاميّين يميلون إلى الاشتباه بالمسألة الثقافيّة ذاتها جملةً وتفصيلاً، بل يرفعون المجتمع، المؤمثل بعجره وبجره، في مواجهة الدولة «المنحطّة» و «البربريّة».

 

 

وبدورهم فإنّ أغلب المشتغلين على المسألة الثقافيّة، وفي عدادها التنوير، يضعون الاستبداد بين مزدوجين، أو يتغافلون عن طرحه كمسألة ضاغطة، بل حاكمة لسواها. ويذهب التجاهل إلى أقصاه حين يكون ضحايا الاستبداد من الإسلاميّين لأنّهم أيضاً خصوم التنوير والحداثة.

 

 

لكنّ الطرفين، السياسيّ والثقافيّ، تشاركا في التهوين من حجم المسألة القرابيّة – الطائفيّة («نحن لم نعرف الطائفيّة»)، كما تشاركا في تصيّد الحماسات العابرة للحدود، المسمّاة عند أحد الطرفين «قوميّة»، وعند الآخر «إسلاميّة»، وفي استزراعها في نسيج وطنيّ بالغ الهشاشة. فهنا، وحيال هذه الهشاشة، يُستحسن نزع الإيديولوجيا ما أمكن، بدل إعلائها، والتفكيرُ المتواضع بالقواسم المشتركة الممكنة بين جماعات وطن ممكن.

 

 

وهذا ما لا يُعدم أسبابه ومصادره في عموم تجربة المشرق العربيّ منذ احتكاكه بالغرب وأفكاره. فباستثناء مقطوعات إنشائيّة عن «حبّ الوطن» (اللبنانيّ بطرس البستاني)، ثمّ عن وطنيّة غامضة المضمون والملامح، سلبيّة التعريف («مناهضة الإمبرياليّة»...)، بقيت نادرةً مناسبات التطرّق إلى كيفيّة بناء الوطن وتعريفه ووصف العلاقات بين مكوّناته. وفي سوريّة تحديداً، «قلب العروبة النابض» و «الإقليم الشماليّ» في دولة أكبر، كان يستعان دوماً بالإيديولوجيا العروبيّة وبإسرائيل للهرب من بناء الدولة الوطنيّة، وهو ما استثمره إلى المدى الأقصى حافظ الأسد عبر سياسته التدخّليّة وشبه الإمبراطوريّة.

 

 

ولئن لم يتوقّف «برنامج» الحداثيّين العرب (علمنة، إصلاح زراعيّ، المساواة بين الجنسين...) عند الوطنيّة، فإنّه من خلال القوميّة والصراع ضدّ إسرائيل كان يزيد في هشاشة الحدود ويحيل الدول مجرّد «ساحاتٍ». وهذا علماً أنّ تلك الدول إنّما هي المسارح والإطارات التي تحتوي العلمنة والمساواة الجندريّة والإصلاح الزراعيّ وحقوق الأقلّيات...

 

 

كذلك لم تكن موضوعة الاستبداد أوفر حظّاً، خصوصاً مع ما أسّسه زمن الحرب الباردة، الذي هو أيضاً زمن دولنا المستقلّة وانتشار إيديولوجيّاتنا التي سادت. فقد كان التشبّه بأنظمة «حليفة للعرب»، توتاليتاريّة وشبه توتاليتاريّة، في الاتّحاد السوفياتيّ وكتلته، مصدراً اختياريّاً لإسقاط «الاستبداد» من ذاك «البرنامج» الحداثيّ. وهنا، وتحت تأثير «التقدّميّة» الرائجة، تمّ النكوص عمّا كان قد بدأ مع السوريّ عبدالرحمن الكواكبي والمصريّ وليّ الدين يكن...

 

 

وهذه، في عمومها، عناوين لمسائل ومراجعات تستحقّ، على الأرجح، شيئاً من النقاش.