إن ضيق الوقت المتاح، إضافة إلى برنامج المؤتمر المكثف لا يسمحان لي بعرض ومناقشة الأفكار المتعلقة بهذا الموضوع الذي يبدو للبعض شائكًا ومعقدًا، ولهذا رأيت أن ألخص ما أريد قوله لحضراتكم بالنقاط التالية:

  1- اختلاف الناس في أوطانهم، في أعراقهم وقومياتهم، في مصالحهم وفي عقائدهم الدينية الروحية هو أمر طبيعي، ولا ينبغي أن تنشأ عنه خلافات أو صراعات. ذلك أنها لم توجد في الناس بمحض اختيارهم من عند أنفسهم، بل هي مفروضة عليهم في الواقع، وفي الموروث، فلا يجوز إذن أن يتميزوا بها ويحاسبوا عليها.  

2- إن الخلافات والصراعات الناشئة عن هذه الأمور لا تحصل من حيث هي، وإنما من حيث إعطاؤها الولاء والتبعية، أي من حيث جعلها المقياس للحق والباطل والعدل والظلم والخير والشر والحسن والقبح.  

3- إن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بالرغم من أنه أقر ودعا إلى عدم التمييز بين الناس، إلا إن الرؤية الكونية الغربية التي تحكم العالم اليوم تتنكر لذلك، وتقيم سياستها العامة للإنسان على أساس المصالح والأحجام، أعني أحجام المصالح والقوة، أي بمقدار ما تملك من قوة تملك من حق، وليس العكس، وهذا ما نتج عنه ما نراه من شرور واستعمار وغطرسة على الشعوب الأقل قوة والأقل حجما أو تأثيرا.  

4-إن هذه الرؤية الكونية الغربية، أعني عقيدة فصل الدين عن الحياة بما تضمنته من حريات عامة وخاصة، في الحكم والاقتصاد والتشريع قد أحدثت نهضة ورُقيًّا. ذلك أنها امتلكت رؤية وفكرًا أي عقيدة عقلية اقتنعت بها تلك الشعوب واعتقدتها واتخذتها أساسًا في الحياة مما جعلها تمتلك القدرة على التفكير والإنشاء والارتقاء.

  5- إن شعوب ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير قد حكمتها أنظمة هذه الرؤية، أي هذه العقيدة العقلية الغربية، منذ ما يزيد على مائة عام وحتى اليوم، إلا أنها لم توجِد فيها نهضةً ورُقيًّا واستقراراً، والسبب في ذلك أن هذه الشعوب لم تعتنق هذه الرؤية الغربية ولم تتقبلها، بل لأنها تمتلك عقيدة ورؤية للحياة تتناقض مع تلك الرؤية الغربية، أعني أنها تمتلك الإسلام الذي يشكل عقيدة عقلية ورؤية للحياة لأكثر من 95% من سكان هذه البلاد.  

6- هناك من يرى أن الحضارة العالمية هي مشتركة لجميع الناس ويدعو للمساهمة في بناء هذا الصرح الحضاري العالمي، ولكن هذا قول بحاجة إلى تدقيق ومراجعة؛ فالحضارة تعكس العقيدة أي وجهة النظر في الحياة، فشتان بين حضارة تقوم على عقيدة لا إله لا الله محمد رسول الله، وعقيدة علمانية تقوم على أساس الفصل بين الدين والحياة، وتضع الإنسان في موضع الرب، يشرع ويحلل ويحرم بناء على أهواء البشر ومصالحهم، وهنا أقول: كنت أظن أننا سنقف دقيقة حداد على ما نعته بالأمس جريدة النيويورك تايمز والوول ستريت جورنال عن وفاة "الرب التشريعي" في المحكمة الأمريكية العليا "Supreme Court" بعد وفاة القاضي سكاليا مما جعل عدد أعضاء المحكمة العليا ثمانية بدلا من تسعة، وهكذا انقسم القضاة أمس في التصويت إلى 4-4، أي 4 قضاة مؤيدين للقرار و 4 معارضين، مما يعني شلل المحكمة القضائية، ومما يعني أن القاضي سكاليا لو قدر له العيش لرجح صوته أحد الفريقين، فهل تتفق هذه الحضارة التي تجعل من الإنسان مشرعا، أي مستعبداً لسائر المجتمع، مع الحضارة الإسلامية القائمة على التشريع الرباني المنزه عن أهواء البشر وتقلب أهوائهم؟  

7- ولا ننسى أن تمثال الحرية المزعوم المنصوب أمام مدينة نيويورك ليس هو الذي يمثل الحضارة الرأسمالية، تلك الحضارة التي قضت على 18 مليوناً من الهنود الحمر في أمريكا، وقضت، في أوج عصر التنوير الأوروبي، على الملايين من الشعوب المغلوبة في أستراليا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، مبررة ذلك بالسياسة الداروينية القائمة على مبدأ "البقاء للأصلح".  

8- إن الإسلام الذي هو النص الفكري والسياسي والتشريعي الذي جاءنا من عند الله عز وجل إلى الإنسان في العالم ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ وبغض النظر عن هؤلاء الناس في أديانهم أو أعراقهم أو أوطانهم أو شيء آخر غير وصف الإنسانية فإنه لا يثير حساسية أحد من بني البشر، لأنه فكر إنساني ليس غير ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾، ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، «ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يُفتن عنها».

  9- أخلص إلى القول: إنه لا توجد مشاكل أقليات في النظام الإسلامي وفي التشريع الإسلامي لأن الإسلام لا يعتبر العقيدة الدينية الروحية هي الأساس في حكم البشر، وإنما يعتبر التابعية وحدها في ذلك. وهي حمل الولاء للنظام العام وللبلاد أو ما يسمى بالمواطنية. ويشهد على ذلك تاريخه، إذ لو كان الإسلام يثير حساسية الآخرين لما تفاعلت معه عشرات الأديان والأعراق والثقافات، بل ولما قبلت به وبحكمه بل واعتنقته وآمنت به، وهذا ما يدل قطعا على أن مشاكل التعدد والتنوع والأقليات والإرهاب لم تعرفها بلادنا إلا بعد مجيء الاستعمار في القرن الماضي.

  10- إنّ أوّل ضحية لمفهوم "الأقليات" هم الأقليات أنفسهم؛ إذ وتّر هذا المفهوم الدخيل علاقتهم مع الأكثرية، وجعلها تتحوّل إلى صراع لبسط الهيمنة والتحكم أنتج فتناً داخلية وحروباً دموية. ولما كانت الدول الغربية تدعم هذا التوتُّر وتسعى إليه فقد أصبح مصير الأقليات مرهوناً بالتدخل الأجنبي في كل كبيرة وصغيرة.  

11- وهنا أذكر بما قاله مطران إهدن (في لبنان) في رسالته إلى بطرك الموارنة في العام 1857م بأننا "صرنا في حال لو أن جارا اختلف مع جاره على فنجان قهوة لانتهى الأمر بظهور الأساطيل الفرنسية والبريطانية في البحر"، ونحن نعلم أن "فتنة الجبل" الشهيرة سنة 1860م كان وراءها الأيدي الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا، ومن هنا كتب الأستاذ غسان تويني في جريدة النهار في تموز 1958م بعد أن نزل جنود المارينز على شواطئ بيروت، مخاطبا طائفته من النصارى: "لا تظنوا أن أمريكا جاءت بأسطولها لحمايتكم، فأمريكا لا تعرف مذهبا دينياً في سياستها، وهي تعرف فقط حماية مصالحها ولا شيء سوى ذلك".

  12- إن تطبيق الإسلام، فوق كونه الإرادة العامة للغالبية الساحقة من الناس في هذه البلاد، هو الذي يبعث على النهضة ويحقق الاستقرار، وإن معظم مشاكلنا ناجمة من عدم ممارستنا لهذه الإرادة العامة بسبب التخلف الفكري والاستبداد السياسي والاشتغال الدولي على هذا التخلف وهذا الاستبداد، وبعبارة أخرى ابحثوا في الأسباب لا في النتائج، ابحثوا عن الفاعلين لا عن الأفعال فقط.

  ختاما أشكر لكم حسن استماعكم، داعيا المولى سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته