قليلون هم من يرتدون ساعة في اليد اليمنى؛ فكيف إذا كان رئيًسا لدولة كبرى مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟! عندها يصبح نظره إلى الوقت بأهمية القرارات التي يوقّع عليها. فاليد التي وقّعت على بدء العمليات العسكرية الروسية غير المتوقعة في سوريا، هي نفسها التي نظر إليها يوم 14 مارس (آذار)، ليفاجئ العالم باختيار التوقيت الذي يناسبه لإعلان سحب الجزء الأكبر من قواته المقاتلة في سوريا. فعادت الطائرات الحربية من حيث أتت، بعد أن عجزت عن تحقيق النصر، مخلّفة دماًرا هائلاً ومزيدًا من التعقيدات، تفوق قدرة من أرسلها على صناعة الحل.

أدرك فلاديمير بوتين مبكًرا أّن المزيد من الانغماس في سوريا سيعيد إلى أذهان الروس شبح أفغانستان، وهو الذي وعد مواطنيه بتجنّبها منذ اللحظة الأولى لتدخله في الحرب السورية، إلا أن إسقاط الأتراك لطائرة «السوخوي» جرح كبرياء القيصر، فاستغلّتها النخب العسكرية والقومية للضغط عليه من أجل توسيع العمليات العسكرية في سوريا، بهدف معاقبة الخصم التاريخي على فعلته، واعتبارها فرصة لإظهار المزيد من قوة روسيا، كرسالة تحذيرية للخارج واستقواء في الداخل.

تؤرق النزاعات الداخلية سيد الكرملين، العالق بين توجهين، طرفه الأول عسكري تتملكه الرغبة في استخدام القوة والقسوة في صناعة النفوذ واستعادة الهيبة والدور. وهذا الطرف قائم على تقاطع المصالح بين كبار جنرالات الجيش والنخب الفكرية القومية واليمينية التي تمثل طيف العقائدية الروسية الجديدة، المبنية على الموقع الجيو ­ سياسي لروسيا ببعده الإمبراطوري، وهو ما يرّوج له عالم الاجتماع السياسي المثير للجدل ألكسندر دوغين صاحب النزعة الأورو ­ آسيوية بمركزيتها الأرثوذكسية، كأداة تماسك بين الجغرافيا والسياسة، وكحاجة للربط بين الآيديولوجيا والمكان، في مواجهة الغرب والأطلسي، بصفتهما غطاءين للإمبريالية والليبرالية، وأدوات لسلطة البرجوازية. بينما في الطرف الثاني تقف الانتلجنسيا الروسية، التي تجمع تقاطع مصالح الأوليغارشية ورؤساء الشركات الصناعية العملاقة مع جزء من مؤسسات الدولة في إدارة الكرملين والخارجية والمخابرات والأمن القومي، حيث يمكن القول إن المصيبة جمعتهم بعد الضرر الكبير الذي لحق بمجموعة الأوليغارشية المتضررة جراء العقوبات المالية والاقتصادية، التي فرضها الغرب على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية. في حين تراجع نفوذ الخارجية والمخابرات والأمن القومي أمام صعود وزارة الدفاع وأجهزتها المخابراتية، التي تمكنت، بنظر المواطن الروسي، من حماية الأمن القومي الروسي، ومن مواجهة «الناتو» في أوكرانيا، وتحمي نظام الأسد من السقوط، خصوًصا بعد الكارثة الاستراتيجية التيُمنيت بها موسكو بخسارتها السيطرة على القرار السياسي في كييف، حيث تم ربط هذه الانتكاسة بسوء التقدير من قبل وزارتي الخارجية والمخابرات للواقع الأوكراني.

انحنت الانتلجنسيا الروسية أمام صعود العصبية القومية، التي كان فلاديمير بوتين بأمّس الحاجة إليها كزعيم للأمة بعد ضم القرم والتدخل في سوريا. وحاولت الأوليغارشيا استيعاب صدمة العقوبات الغربية والالتفاف عليها من البوابة التركية، التي سرعان ما تحولت إلى جبهة مفتوحة على كل الاحتمالات بعد حادثة «السوخوي». وباتت هذه الحادثة ذريعة للجيش من أجل توسيع عملياته العسكرية في الشمال السوري، بما يناسب طموحاته التي تعجز الميزانية الروسية عن تلبيتها، كما ترفض وزارتا المخابرات والخارجية تغطيتها، وذلك لصعوبة التكّهن بنتائجها، وخوفًا من تداعياتها، مكتفيتين بدعم إجراءات الكرملين العقابية على أنقرة. أما التيار القومي واليمين الأرثوذكسي، فحاولا دفع الجيش إلى تبنّي فكرة تحالف الأقليات، في محاولة استنساخ للمسألة الشرقية، التي من شأنها أن تضع موسكو في مواجهة الأغلبية العربية والإسلامية، وهي التي اتّهمت موسكو بتأمين غطاء جوي للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. وهذا الاتهام يضع موسكو بخانة الانحياز، في نزاع يأخذ بعدًا مذهبيًا، لن تسلم منه روسيا إذا توسع.

بالنسبة لبوتين المسكون بهاجس العودة إلى المجال الحيوي السوفياتي، المهمة في سوريا قد أنجزت. أما انسحابه الجزئي المفاجئ ضروري لحفظ التوازن بين مراكز القوة، على اعتبار أن الجيش الروسي لم يخسر معركته، لكنه لم يكملها، والانتلجنسيا لن تتحمل أعباء مالية إضافية. لكن العقوبات مستمرة، والحل متعثر، وحاجة بوتين له ملحة، وهو يعلم أن الفرصة متاحة مع أوباما فقط، ولكانت مهمة صعبة، وستزداد صعوبة مع تغير السياسات الأميركية بعد الانتخابات الرئاسية، مما يدفع بوتين إلى إعادة حساباته بين المصلحة والعقيدة، واللجوء إلى ممارسة البراغماتية التي حافظت على نظامه كل هذه السنوات بعيدًا عن أوهام الإمبراطورية، أي الابتعاد عن محاولات بعث الأمة والدولة بالصيغة ذاتها والبنى التي أوصلت الروس تاريخيًا إلى الهزيمة.