مفهوم الكرامة البشرية في القرآن ومن ثم في الإسلام، هذا المفهوم حصل حوله جدل كثير في مدى تاريخ الإنسانية وكان دائماً موضع بحث وجدل بين الفلاسفة وبين السياسيين وبين رجال الدين والمؤسسات الدينية. هل للإنسان كرامة متميزة أو ليست له كرامة؟ هذه الكرامة هل هي ثابتة لجميع البشر أم لصنف خاص من البشر! أو لطبقة خاصة من الناس! هذه الكرامة هل هي ثابتة للرجال دون النساء أم هي ثابتة للرجال والنساء؟ هل هي ثابتة للعبيد والأحرار أو لخصوص الأحرار؟ هذا السؤال يتردد في أبحاث الفلاسفة، منذ أقدم نصوص الفكر الفلسفي هذا السؤال مطروح، في الأبحاث الدينية القديمة أيضاً مطروح في أبحاث رجال القانون في أقدم الشرائع، منذ شريعة حمورابي وقبل حمورابي في التشريع المصري القديم أيضاً مطروح.

ما هو المقصود بالكرامة البشرية، هي أن الإنسان له موقع في الكون يجعله موضع احترام وموضع صيانة، له احترام وله حقوق، ليس مهاناً وليس مهدور الحقوق. الحقوق تتناول الأمور الأساسية في البشر، حق الحياة وحق العيش وحق الأمان حق الحرية، الحقوق الأساسية التي تتقدم بها حياة البشر مع الاحترام، هذه هي الكرامة. 

هذا المبدأ، مبدأ الكرامة الانسانية، ورد في سورة مكية في آية مكية. السورة هي سورة الإسراء، توجد فيها آية هي آية فريدة من نوعها وبنصها في القرآن الكريم التي نرى أنها وضعت أساساً لأول مرة في تاريخ البشر المعروف عن كرامة الانسان وهي قوله تعالى:" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقنَا تَفضِيلاً "(الاسراء،70). ...هذه الآية هي لبيان المركز الحقوقي للإنسان، ومن ثم فإن هذا الأصل التشريعي يقاس عليه كل وضع متفرع، فكل وضع يتنافى مع مبدأ الكرامة الإنسانية يعتبر غير مشروع، وهذا أصل في باب الاستنباط قد يؤدي إلى نتائج مثيرة جداً في الفقه بالنسبة إلى المسلمين وبالنسبة إلى غير المسلمين أيضاً.

درج المفسرون على اعتبار أن هذه الآية هي من آيات التشريف وآيات المدح وأنها ليست من آيات الأحكام. نحن نعتبر أن هذه الآية هي آية تشريعية وهي من آيات الأحكام التي تضمنت حكماً شرعياً، وأنها من الآيات التي تتضمن أدلة الشريعة العليا. ما يترتب على كون هذه الآية من آيات الأحكام أن كل أمر من الأمور يتنافى مع كون الإنسان مكرماً، سواء كان هذا الإنسان فرداً أو جماعة أو شعباً من الشعوب أو أمة من الأمم، كل ما يتنافى مع كونه مكرماً هو يكون غير مشروع في الشريعة، يكون محرماً، سواء كان من التصرفات أو من المواقف أو من الأحكام. وهذا ينطبق على المؤمن والكافر، وعلى العدو والصديق، وعلى القريب والبعيد، حتى غير المسلمين ينطبق عليهم هذا الحكم المبدئي الكبير إنهم مكرمون.

وأن كل ما يتنافى مع كرامتهم، كل إهانة وكل افتئات هو محرم في الشريعة الإسلامية. وهذا يتناسب مع الكلية الكبيرة المذكورة في آيات الحرب وفي آيات القضاء من قبيل النهي عن العدوان، العدوان في الإسلام هو محرم إلا عندما يكون رداً للعدوان. وآيات القتال التي ورد فيها ...ولا تعتدوا... (البقرة، 190) (المائدة، 87)، تتناسب مع مبدأ الكرامة البشرية، ومن ذلك أننا استنتجنا في أبحاثنا في فقه الجهاد عدم مشروعية ما يسمى الجهاد الإبتدائي وهو إبتداء غير المسلمين بالحرب لمجرد أنهم غير مسلمين. ولا يجوز للمسلمين أن يشنوا حرباً إبتدائية، وهذا ينسجم مع مبدأ الكرامة البشرية، تحريم العدوان. 

الكرامة البشرية هي كما قلنا حكم شرعي وضعي. ونحن في هذا الإستنتاج وفي هذا الاستنباط ننفرد في هذا الفهم عن غيرنا من الفقهاء ونرى أنه باب جديد من أبواب الاستنباط في الفقه الإسلامي. التكريم البشري الثابت في هذه الآية هو أساس من أسس استنباط الأحكام الشرعية في باب الاجتماع السياسي والحرب والسلم والعلاقات الدولية في كل هذه المجالات الفقهية وكذلك في العلاقات الخاصة.

الأمر الشائع في الأذهان أن الكرامة هي فقط للمسلمين وأن غير المسلمين لا كرامة لهم ولا حرمة لهم، هذا أمر في نظرنا مخالف لهذا المبدأ التشريعي. الكرامة البشرية ثابتة للإنسان مهما كان، مؤمناً أو كافراً، قريباً أو بعيداً ما دام يكرم نفسه.

هذه الكرامة ثابتة للإنسان الذي يحترم كرامته. أما إذا أهان الإنسان كرامته حينئذ بطبيعة الحال هو يفقد هذه الكرامة. الإنسان يكون مكرماً وتكون لكرامته آثار تشريعية ما لم يهتك حرمة نفسه وما لم يرفع الستر المعطى له من الله سبحانه وتعالى.

فلو فرضنا أن هذا الإنسان ظلم غيره لا تعود له كرامة، لو سرق أو كذب أو اعتدى يكون بطبيعة الحال قد عرض نفسه للعقاب لأن هذه الكرامة تثبت لأهلها ولا تثبت لغير أهلها. الحرمات الأساسية للبشر هي: الدم والعرض والمال والسمعة، وهي مصونة لكل الناس، دم الإنسان البريء هو مصون، كونه غير مسلم لا يهدر دمه، عرضه مصون، ماله مصون.

حينما نلاحظ من شواهد هذا الحكم الشرعي أنه ثابت في أصل الشرع لكل البشر حتى في حالة هزيمة غير المسلمين إذا اعتدوا نجد أن هناك حدود لرد العدوان وهو فقط إتقاء الخطر، كل شيء يزيد عن إتقاء الخطر وعن دفع الخطر يكون محرماً، كذلك حرمة العرض وحرمة الحريم، بحيث لا تجعل من عرض الأعداء من حريم الأعداء أمراًَ مستباحاً بأي وجه من الوجوه.  حرمة المال، كل إنسان يعيش في ظل القانون وفي ظل النظام ماله محرم، وما يشيع بين الناس أن غير المسلم هو مهدور المال هو أمر لا أساس له في الشرع على الإطلاق. وحرمة السمعة، إهانة غير المسلم، إهانته بأي معنى من معاني الإهانة يدخل في هذا الباب أيضاً.

الخطأ الذي يرتكبه الحاكم أو الدولة، الدولة إذا ارتكبت أي عمل من الأعمال يتنافى مع كرامة البشر فهذا العمل غير مشروع.

الآن يُتداول أنه يطلب من الدول ومن السلطات العامة أن تحترم حقوق الإنسان والحريات العامة، ويُظن أن هذا المبدأ في القانون الدستوري أو في القانون الدولي هو من المبادئ المستحدثة من حين بدء الثورة الفرنسية أو الثورة البريطانية وأن هذا المفهوم كان غير معروف، كلا، هذا الأمر وُضعت أسسه في الشريعة الإسلامية. كل عمل من الأعمال يتنافى مع الكرامة البشرية تقوم به الدولة هو عمل غير مشروع وغير دستوري وتجب مقاومته.

كل عمل من الأعمال تقوم به أي سلطة من السلطات تجاه أي مواطن أو أي جماعة يتنافى مع الكرامة البشرية هو غير مشروع. كل عمل من الأعمال يقوم به أي شخص تجاه أي شخص آخر ويتنافى مع الكرامة البشرية هو غير مشروع.

في هذه الحالة نحن نذكر بعض الخطوط التشريعية لهذا المبدأ التشريعي، في هذه الحالة إذا تعرض الإنسان لما ينتهك كرامته، الفرد أو الجماعة أو المجتمع، ولم تتوفر ضمانات الحماية وضمانات رد العدوان، يصبح من المشروع له أن يدافع عن كرامته، عن حقه في الكرامة وعن حقه في الاحترام وعن حقه في صون حقوقه، عندئذ يكون من حقه الدفاع عن نفسه.

نتحدث هنا ليس عن الإنتهاك السياسي من قبيل أن يكون احتلال إسرائيلي وتتركب مقاومة جهادية ضد الإحتلال. هذا أمر يتعلق بالكرامة السياسية والسيادة الوطنية. نقول أنه حتى في المجالات الحقوقية داخل المجتمع حين يتعرض الإنسان أو الجماعة لأي انتهاك من انتهاكات الكرامة يكون له حق الدفاع عن نفسه. والآن المبدأ التشريعي لمشروعية المقاومة بكل ما تعنيه هو يرجع إلى هذا، إلى مبدأ الكرمة البشرية.