لم تعد أوروبا القارة البيضاء العجوز التي احتلت أغلب أجزاء العالم متفوقة عسكرياً كما كانت في الماضي، فقد أصبح لها منافسون جدد تزداد قوتهم بينما حليفتها الكبرى وابنتها الحضارية الولايات المتحدة تنأى بنفسها عن القارة التي حمتها لعقود؟

 

تنجذب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حالياً نحو اتجاهات مختلفة في مجال الدفاع، فبالنسبة لبعضها، تؤدي عملية إعادة بناء الثقة في قوة الردع التقليدي والدفاع الجماعي، في ضوء عودة روسيا كلاعب دولي قوي، إلى تجديد التركيز على حلف شمال الأطلسي، في حين ما زالت دول أخرى حريصة على الانخراط في عمليات إدارة الأزمات المتعددة الأوجه، وهي على استعداد لزيادة الجهود المبذولة في مجال بناء القدرات الدفاعية أو تدريب وتجهيز البعثات التي يبدو أن الاتحاد الأوروبي لديه قدرة أكبر على إنجازها، حسب تقرير نشرته "شبكة الأمن والعلاقات الدولية" ISN السويسرية، الأحد 20 آذار 2016.

عدم الاهتمام بنفقات السلاح

 

ينكشف هذا المزيج من عوامل الدفع والجذب على خلفية تخفيض نفقات الدفاع بشكل كبير في أوروبا. كما يمكن أيضاً ملاحظة التخلي عن الالتزامات العسكرية الكبيرة لدى العديد من الناخبين الأوروبيين، ما يضع فكرة شن أي عمل عسكري كبير في المستقبل محل شك.

وعلى المستوى الخارجي، يظل مسار التهديدات الأمنية والتحديات المستقبلية غير مؤكد إلى حد كبير. وثمة إشارات على أن أوروبا قد تضطر إلى القبول بأن الولايات المتحدة لا تملك أي بديل سوى أن تتحول إلى ضامن للأمان في مناطق متعددة: فمن غير المرجح أن تكون القوة العسكرية الأميركية متاحة لحفظ الأمن داخل الولايات المتحدة وفي آسيا وأوروبا والشرق الأوسط في آن واحد.

بل ومن المرجح أن يتقلص الاهتمام والمساعدات الأميركية أكثر مما هي عليه الآن بسبب المطالب المتنوعة، سواء من حيث الجغرافيا أو الوظيفة.

وقد تكون أزمة اللاجئين الحالية مثالاً على ذلك. حيث تتزايد الضغوط على دول الاتحاد التي تقع على حدوده الخارجية، بينما تندفع شعوبها نحونا، وقد كان هذا التحدي ظاهراً للجميع منذ عام 2015.

ولكنْ ثمة سؤال ذو صلة، وهو ما الذي يتعين على الأوروبيين القيام به بمفردهم من دون الولايات المتحدة؟ بصفة رئيسية.

إن تحديد مستوى الطموح العسكري المستقبلي هو أكثر من مجرد لعبة أرقام، لذلك فإن تحديد هدف رئيسي جديد لا ينبغي أن يكون الخطوة الأولى في هذه العملية. بل قد يكون من الأنسب التفكيرُ في عدد من المشاريع المستقبلية التي ستحدد شكل تطور الصراع المسلح.

وفي نهاية المطاف، سيتعين على الاتحاد الأوروبي وضع أساس لمستوى الطموح العسكري في المستقبل حول مستقبل هذا الصراع، وليس على أساس التحديات القائمة اليوم.

ومن المغري تخطي هذه الخطوة والافتراض ببساطة أن المستقبل سيكون مثل اليوم. ومع ذلك، يؤكد التفكير في نحو 15 عاماً انقضت ومقارنة البيئة الأمنية التي كانت سائدة وقتئذٍ مع الوضع القائم الآن أننا سنظل نتلقى الصدمات وعلينا الاستعداد لذلك.

مَن المستفيد من تغيّر ميزان القوى

 

أولاً، وبالنسبة لميزان القوى العالمي: هناك أدلة كثيرة تدعم الافتراض القائل بأن مركز الثقل الاقتصادي يتحول نحو آسيا. ويبدو منطقياً أن نفترض أن أحد الآثار الجانبية سوف يكون تقليص قدرة أوروبا على تكوين النظام الدولي والأمن العالمي، والاستقرار. ولكن هذا لا يؤدي بالضرورة إلى تهميش أوروبا. ولكنه يعني ببساطة أن السلطة ستكون أكثر تشتتاً، وبعيدة عن أوروبا، وسوف تنضبط أنماط التجارة وفقاً لذلك.

يحتاج الأمن للنظر في كل أبعاده الجغرافية (بمعنى القرب) والوظيفية (بمعنى التدفقات العالمية). على سبيل المثال، من المرجح أن تتوسع تجارة الحاويات المنقولة بحراً بشكل كبير في الشرق الأقصى وجنوب آسيا، وربما أيضاً الشحن عبر المحيط الهادئ. وهكذا، عندما نفكر في مساهمة الاتحاد الأوروبي في الأمن البحري، فهل نحن مجهّزون وعلى استعداد للعب دور هام في مجال الأمن البحري بينما يقع مركز الثقل في مكان آخر؟ هل سنعتمد على التقسيم الجغرافي للعمل مع القوى الصاعدة مثل الصين والهند، على افتراض أننا نتقاسم المصلحة المشتركة في التدفق الحر للسلع، بما يمكن من تسوية المنازعات البحرية سلمياً، بحيث يمكن أن تتوافق المفاهيم المختلفة حول السيادة والأفكار حول الوصول إلى المشاعات العالمية؟

أوروبا ستخسر تفوقها التكنولوجي في المجال العسكري

 

المحور الثاني الهام هو انتشار التكنولوجيا. فقد اعتادت الحكومات الغربية على العمل في بيئة عسكرية تتفوّق فيها قواتهم المسلحة من الناحية التكنولوجية على أيّ عدو يواجهها. وتستند الافتراضات الوظيفية الغربية على هذه الأفضلية النسبية.

وفي المستقبل، ستنحسر هذه الميزة وقد تختفي تماماً في نهاية المطاف. وقد بات لدى الجهات الفاعلة غير الحكومية اليوم القدرة على الحصول على قدرات لم تكن متاحة في السابق إلا للدول. بينما تقوم جهات حكومية أخرى باستثمارات كبيرة في مجال التكنولوجيات المتقدمة مثل المركبات غير المأهولة، والجيل الخامس من الطائرات المقاتلة، أو الصواريخ المضادة للسفن. ولكن هل أوروبا مستعدة لبيئة صراع قد يمتد لعقود؟ وما هو نوع المساهمة التي يمكن لأوروبا تقديمها في الجهود العالمية لإدارة الأزمات؟

حرب المدن

 

ثالثاً، تشير اتجاهات التحضر والنمو السكاني المستمر أن المدن من المرجح أن تكون ساحات للصراع بشكل متزايد. سيعيش عدد متزايد من الناس في المدن، ومعظم هذه المدن سوف تكون قريبة من الساحل. وسيرتفع عدد المدن الكبرى، وكثير منها ستقع في العالم النامي وفي المناطق غير المستقرة. وفي نفس الوقت، أصبحت السيطرة والتأثير على الناس مركز الثقل في العمليات.

ومن المرجح أن تكون البيئة والمدن الحضرية الساحة الرئيسية للصراع المسلح؛ في الواقع، قد تتحول إلى ساحة معركة مفضلة للعديد من المعارضين. فهل أوروبا مجهزة والمجتمعات الأوروبية على استعداد لإجراء عمليات في المناطق الحضرية من أجل تحقيق الاستقرار والأمن؟ وفي حين أن هذا سؤال عن المتطلبات والإرادة، قد لا يكون أمام القوات المسلحة الأوروبية بديل في عمليات إدارة الأزمات في المستقبل سوى الانخراط في عمليات في المناطق الحضرية.

صراعات متوحشة

 

وأخيراً: هشاشة الأوضاع الإقليمية. إن الغالبية العظمى من الصراعات القائمة حالياً هي صراعات داخل الدول، ولكنها ذات بعد دولي. والعدد الإجمالي للصراعات النشطة في طريقه إلى الانخفاض، ولكن فداحتها تزداد - فالمزيد من الناس يموتون والمزيد ينزحون. وقد بلغ عدد اللاجئين والمشردين داخليا مستويات مؤسفة بشكل لم يسبق له مثيل في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وهناك عدد قليل جداً من المؤشرات التي تشير إلى أن العنف داخل الدولة سينحسر في أي وقت قريب. في الواقع، إن التقارب بين التمرد والإرهاب والجريمة المنظمة في منطقة الساحل الأفريقي وجنوب الصحراء يشير إلى أن الصراع في تلك المنطقة من المرجح أن يكون عنيفاً ومتوحشاً.

ومع ذلك، هناك العديد من العوامل التي تشير إلى احتمال وقوع نزاعات بين الدول، بسبب المنافسة الشرسة بين القوى العظمى. لذا، فإن عوامل الخطر لا تتغير، بل تتوسع وتتكاثر. وقد وصل النظام الدولي إلى نقطة انعطاف محتملة ودخل حالة من التقلب والضعف.

المنافسون الجدد

 

فبروز الصين كلاعب دولي، ونهضة روسيا، وطموحات إيران بعد إبرام الاتفاق النووي هي علامات واضحة على التغييرات المشار إليها. فهل أوروبا مستعدة للمشاركة وفقاً لهذه الظروف وهل يمكنها الالتزام بنهج المواجهة؟

إن قائمة المشكلات المدرجة أعلاه واضحة وغير كاملة بأي حال من الأحوال. ويجب محاولة الإجابة على أسئلة كهذه قبل دخول أوروبا في ممارسات تحدد بدقة ما ترغب في أن تكون قادرة على تحقيقه في المجال العسكري.

وتكمن المهمة الأولى في عدم اليأس من التحديات؛ بل الكف عن التعامل مع واجب الدفاع وتوظيف القوى المسلحة في السعي لتحقيق مصالح السياسة الخارجية الأوروبية والأمن كنشاط اختياري.

(ISN - Huffington Post)