في أحد تفسيراته لخطوة الانسحاب من سورية، قال الكرملين إنه «أنجز المهمة» التي قدمت القوات الروسية من أجلها إلى سورية. «المهمة» كانت بحسب مانيفستو التدخل في سورية القضاء على «داعش»! هذه المهمة لم تتحقق. تمكنت القوات الروسية من وقف تقدم الفصائل السورية الأخرى، وعززت مواقع النظام بالقرب من مدينة حلب، وجرى صد تقدم الفصائل إلى مناطق الساحل. جرى أيضاً مد الطموحات الفيديرالية الكردية بمساعدة أكيدة. أما «داعش» فبقيت في منأى عن «الفاعلية» الروسية.

 

 

والحال أن تفسير الخطوة الروسية يبقى أسير معطيات العلاقة بين النظام والكرملين، لكن درس التدخل الروسي يمتد ليشمل ما إذا كانت هناك رغبة فعلية في القضاء على «داعش». فمقاتلات السوخوي طوال مرحلة عملها في سورية كانت مواقع «داعش» في أسفل لوائح أهدافها، وهو أمر يعيدنا إلى جوهر المهمة الروسية المتمثل في تغيير ميداني يتيح للنظام شروط مفاوضة مختلفة.

 

 

لكن المهمة الروسية هذه ترافقت مع إقرار دولي بها، وان لم يكن معبراً عنه بشكل واضح. فالأميركيون تعاملوا مع المهمة الروسية بصفتها أمراً واقعاً، لا بل حاولوا استثمارها بالضغط على قوى إقليمية، لكي ينتزعوا منها تنازلات تفاوضية، وهو أيضاً ما بدا على بعض المواقف العربية غير القريبة من النظام، لكن المتحفظة على الدور التركي، والمتوجسة من الاحتمالات الإخوانية. مصر والأردن نموذجان على هذا الصعيد.

 

 

خطوة الانسحاب الروسي المفاجئ يجب النظر إليها أيضاً وفق ما «أنجزه» التدخل على هذه المستويات. والفشل لم يقتصر على تلك العلاقة الملتبسة بين النظام السوري وموسكو، إنما أيضاً هو فشل الرهان الأميركي على الدور الروسي. فما أنجزته السوخوي هو مساعدة النظام على البقاء وعدم التعرض لـ»داعش»، والهدفان معاً من المفترض أن لا يكونا جزءاً من الطموح الأميركي.

 

 

بعد الانسحاب الروسي على العالم أن يكاشف نفسه بما إذا كان فعلاً راغباً في القضاء على «داعش». فالإقرار بالدور العسكري الروسي، مترافقاً مع قناعة بأنه لا يستهدف «داعش»، هو تواطؤ ينطوي على حقيقة أن خطاب الاستعداد للقضاء على التنظيم الإرهابي ليس سوى لغو، وأن لا مانع من تأمين شروط بقاء النظام.

 

 

لكن صفعة واضحة تعرضت لها قابلية العالم لهذه السقطة الأخلاقية. فبشار الأسد لن يستقيم مع شروط إعادة إنتاجه، وطبيعة نظامه لا تنسجم مع شروط المفاوضة، حتى لو كانت هذه الأخيرة تهدف بالدرجة الأولى للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من نظامه. إما كل شيء وإما لا شيء. على موسكو أن تأتي للحفاظ عليه كما هو، لا كما تريده أن يكون. وهو على كل حال يتمسك بما يطمح إليه، ذاك أن دخوله في أي شراكة سياسية أو أهلية كفيل بالقضاء عليه.

 

 

العالم كله يعرف ما جرى في أروقة العلاقة بين الكرملين وبشار الأسد، والجميع كان يرصد لحظات الافتراق بين ما تعهدت به موسكو ونوايا فريق النظام المفاوض. وهذه المعرفة تُضمر إقراراً بأن ما شُهِر بوجه السوريين بصفته تشوهاً أصاب ثورتهم، أي «داعش»، لم يكن سوى قناع، وأن العالم بصدد أن يخذلهم.

 

 

الانسحاب الروسي «قبل إنجاز المهمة» يعني فشلاً، وهو فشل لن يُصارح العالم نفسه به. وكل من قَبِل بـ»المهمة» ونسق مع أصحابها طاوله شيء من هذا الفشل. فرنسوا هولاند، عندما زار فلاديمير بوتين في أعقاب تفجيرات باريس الإرهابية، لحقه شيء من فشل المهمة الروسية، والإسرائيليون كذلك عندما ثبتوا علاقة ميدانية مع غرفة عمليات حميميم، ناهيك عن التفاهمات التي أقامتها موسكو مع غرفة العمليات الإقليمية في عمان (موكا) والتي تم خلالها تنظيم الغارات الروسية على جنوب سورية.

 

 

لكن الأهم من الفشل، هو وجهه الآخر المتمثل بأن ما كان يجري لم يكن حرباً على «داعش»، وأن ثمة إقراراً دولياً بأن الحرب هي في مكان آخر. ويبدو أن الفشل أيضاً هو فشل العالم في حماية النظام، وهذه عودة إلى مقولة سبقت قيام «داعش»، وتتمثل في أن النظام السوري لم يعد قابلاً للتكيف مع شروط البقاء في هذا الزمن.

 

 

«داعش» كانت وظيفتها تأجيل هذه القناعة عبر تجسيد قيم أبشع من تلك التي مثلها النظام. لكن ذلك لا يكفي على ما كشفت تجربة موسكو في سورية، فإعادة إنتاج شروط شراكة مع بشار الأسد ليست مهمة ممكنة، وسيناور الرجل حول هذه الحقيقة طالما هو في موقعه. قد تمده «داعش» ببعض الوقت، وقد تسعفه موسكو، وقد تمنع طهران انهياراً مفاجئاً لنظامه. لكن ذلك لن يحصل بانتظار تسوية، ليس لأن خصومه لا يريدونها، إنما لأن طبيعة النظام لا تحتمل تسوية! إذاً ستكون وظيفة بقاء النظام فقط مزيداً من الدماء في سورية.

 

 

ما جرى تسريبه لجهة أن موسكو غاضبة من تحديد الأسد موعداً للانتخابات البرلمانية في نيسان (أبريل) المقبل، ورده على طلبها تأجيل الخطوة بانتظار مفاوضات جنيف، بالقول إن تحديد موعد الانتخابات خطوة «سيادية» يرفض التخلي عنها!، هذا الرد يكشف كيف يفهم بشار الأسد المهمة الروسية في بلده. فـ»الخطوة السيادية» لم تكترث لحقيقة أن «السيادة» محمية بجيش روسي وآخر إيراني، وبميليشيات غير سورية جاءت من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان.

 

 

كيف يمكن حماية نظام هذه حال رئيسه؟ وكيف يمكن تصور مفاوضات تفضي إلى شراكة معه؟