يبدو أن نوايا الإدارة الأميركية الحالية في منطقة الشرق الأوسط، والتي عمل عليها الرئيس باراك أوباما خلال فترة حكمه حتى الآن وأعرب عن بعضها أخيرا في حديثه لمجلة أتلانيتك، ليست وليدة مجريات الأحداث الحالية في المشهد الإقليمي أو العالمي، لكنها استراتيجية مكتوبة بوضوح سواء في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط أو أوروبا وروسيا والصين واليابان.

عندما يقول جورج فريدمان، في كتابه “الإمبراطورية والجمهورية في عالم متغير”، إنه لحل مشاكل الشرق الأوسط “لا بد للرئيس الأميركي من اختيار تفاهم مؤقت مع الإيرانيين، يعطيها ما تريد، ويتيح للولايات المتحدة مساحة للانسحاب. وهذا أساس لعلاقة العداء المشترك للأصوليين السنة، وبعبارة أخرى لا بد للرئيس من وضع جزيرة العرب داخل مجال نفوذ الإيرانيين، لكن في نفس الوقت يحجّم سيطرتهم المباشرة”، فإن معنى ذلك أن هناك استراتيجية مدروسة بعناية داخل الإدارة الأميركية للأوضاع في العالم يسير على نهجها الرؤساء الأميركيون.  

ويضيف فريدمان، الذي يترأس مجلس إدارة مؤسسة ستراتفور العاملة في مجال الاستخبارات العالمية، “هذه الاستراتيجية سوف تواجه واقع القوة الإيرانية وتحاول أن تشكله. وسواء تم تشكيله أم لا، سيكون الحل الأطول لمدى لتوازن القوى في المنطقة هو صعود تركيا. فتركيا القوية سوف تكون ثقلا موازيا لإيران وإسرائيل، بينما ستؤدي إلى استقرار جزيرة العرب.

وفي الوقت المناسب سوف يبدأ الأتراك بتحدي الإيرانيين، وبذلك يتم إحياء توازن القوى الأساسي، الأمر الذي يؤدي إلى استقرار المنطقة وسوف يخلق هذا توازنا إقليميا جديدا”.  

يوضح فريدمان أنه حتى في حال التفاهم بين إيران والولايات المتحدة فستكون للهيمنة الإيرانية على المنطقة حدود، وسوف تتمتع طهران بمنطقة نفوذ تعتمد على تحالفاتها مع الولايات المتحدة بشأن قضايا أخرى، وهو ما يعني عدم عبورها أي خط يدفع إلى التدخل الأميركي المباشر، وبمرور الوقت سوف يفيد نمو القوة الإيرانية داخل إطار هذه التفاهمات الواضحة، كلا من الولايات المتحدة وإيران. وكشأن الترتيبات مع ستالين وماو، سيكون هذا التحالف الأميركي الإيراني كريها لكنه ضروري، وسيكون مؤقتا كذلك”.    

ويقول بوضوح “سيكون الخاسرون الكبار في هذا التحالف بطبيعة الحال هم السّنّة في شبه جزيرة العرب. ومادام النفط يتدفق ولا تسيطر قوة واحدة بشكل مباشر على المنطقة بكاملها، لن يكون للولايات المتحدة اهتمام طويل المدى بمصلحتهم الاقتصادية والسياسية. وأعاد الوفاق الأميركي الإيراني كذلك تحديد العلاقات التاريخية للولايات المتحدة مع المملكة العربية السعودية. مثلما أدّى إلى تغير الديناميكية الجيوبوليتكية لدول الخليج بالنسبة إلى الجميع”.  

  سر استدامة الإمبراطورية الأميركية   يطرح كتاب “الإمبراطورية والجمهورية في عالم متغير”، الصادر باللغة الإنكليزية عام 2010، وصدرت مؤخّرا عن الدار المصرية اللبنانية نسخته العربية من ترجمة أحمد محمود، الاستراتيجية الأميركية ودورها في خلق توازن القوى الإقليمية المختلفة على مستوى العالم، وذلك على امتداد الفترة 2010 ـ 2020 وقضاياها وفرصها وتحدياتها.  

ويحاول تقديم رؤية ومنهج للخطوات والمواقف، التي ينبغي أو يمكن أن تتبعها الإدارة الأميركية، لبقاء أميركا إمبراطورية وقوة محورية ومؤثرة في الشأن العالمي شرقا أو غربا، جنوبا أو شمالا وحفاظا على مصالح إمبراطوريتها.  

يؤكد فريدمان على أهمية عودة السياسة الأميركية إلى الاستراتيجية العالمية المتوازنة التي تعلمتها الولايات المتحدة من نظام روما القديمة ومن بريطانيا قبل مئة عام، فهؤلاء الإمبرياليون المنتمون إلى المدرسة القديمة لم يحكموا بالقوة الرئيسية، بل حافظوا على هيمنتهم بوضع لاعبين محليين، وإبقائهم في ثوب المعارضين للآخرين الذين قد يندفعوا للتحريض على المقاومة.  

وقد حافظوا على توازن القوى المتعارضة للقضاء على بعضهم البعض، بينما يضمنون مصالح الإمبراطورية الأوسع، كما أبقوا على ربط دولهم ببعضها بواسطة المصالح الاقتصادية والدبلوماسية التي لا تعني المجاملات الروتينية بين الدول، بل التلاعب المتقن الذي يجعل الجيران والعملاء يفقدون الثقة في ما بينهم على نحو يزيد من عدم ثقتهم في القوى الإمبرالية، وكان التدخل المباشر اعتمادا على قوات الإمبراطورية هو الملاذ البعيد الأخير.  

والتزاما بهذه الاستراتيجية تدخلت أميركا في الحرب العالمية الأولى، فقط عندما كان التوازن بين القوى الأوروبية ينهار، وفقط عندما بدا أن الألمان يكتسحون بالفعل الإنكليز والفرنسيين في الغرب، مع انهيار الاتحاد السوفييتي في الشرق، وعندما توقف القتال ساعدت أميركا في صياغة معاهدة سلام، منعت فرنسا من الهيمنة على أوروبا ما بعد الحرب.  

يولي فريدمان اهتماما كبيرا لمنطقة الشرق الأوسط وموازين القوى فيها والدور الأميركي داخلها، فيخصص فصلا لإسرائيل وآخر لإيران وتركيا والعراق ودول الخليج وباقي مجموعة دول الشرق الأوسط. ويلفت إلى أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تكون لدى إسرائيل أو أي بلد حرية العمل في المنطقة.  

ولا بد أن يكون توازن القوى هو مبدأ الولايات المتحدة، ولا بد أن تعيد صياغة توازن القوى الإقليمي بالاقتراب أكثر من الدول العربية من ناحية، والابتعاد عن إسرائيل من ناحية أخرى، ولا يمثل هذا تهديدا وجوديا لإسرائيل، التي ستمثل تحديا أخلاقيا، فإسرائيل ليست معرضة لخطر السقوط ولا تعتمد على أميركا في البقاء.   ويؤكد أن “إسرائيل في الوقت الراهن آمنة استراتيجيا، فقد أصبحت القوة المهيمنة بين الدول الواقعة على حدودها بخلق توازن قوي إقليمي بين جيرانها، يقوم على العداء المتبادل، وكذلك اعتماد بعضهم على إسرائيل”.  

  تهديد روسيا   تحت عنوان كيفية إدارة روسيا، يرى فريدمان أن روسيا لا تهدد وضع أميركا العالمي، ولكن احتمال تعاون روسيا مع أوروبا وبشكل خاص ألمانيا، يفتح الطريق أمــام أكبر تهديد في العقد وهو التهديد طويل المدى الذي لا بد من القضاء عليه في مهده.  

ولا تتوقع الولايات المتحدة من ألمانيا القيام بالدور الذي قامت به في الحرب الباردة، كمنطقة حدودية في مواجهة الإمبراطورية السوفييتية.

  وفي العقد المقبل لا بد أن تعمل الولايات المتحدة على جعل بولندا على ما كانت عليه ألمانيا في الخمسينات، رغم أن التهديد الروسي لن يكون بالأهمية نفسها أو القوة نفسها أو اللون الواحد نفسه الذي كان عليه حينذاك.  

وفي الوقت نفسه الذي تستمر فيه المواجهة، سوف تدخل الولايات المتحدة وروسيا في تعاون اقتصادي وسياسي في أماكن أخرى، فقد يتعاون البلدان إلى حد كبير في وسط آسيا أو حتى في القوقاز، بينما تواجه إحداهما الأخرى في بولندا وجبال الكاربات.  

يخلص جورج فريدمان قائلا “الولايات المتحدة في العقد ستحقق تحولا من السياسة الخارجية الاستحواذية إلى ممارسة أكثر توازنا وتدرجا، ولا أعني بذلك أن الهدف هو تعلم استخدام الدبلوماسية بدلا من القوة، فالدبلوماسية لها مكانتها ولكنني أقول إنه عندما لا تفلح الحلول السهلة للأمور، فلا بد أن تتعلم الولايات المتحدة اختيار أعدائها بعناية، وتتأكد من أن هزيمتهم ممكنة، ثم تخوض حربا فعالة تجعلهم يستسلمون، ومن المهم عدم خوض الحرب التي لا يمكن كسبها وخوض الحروب من أجل الفوز، فخوض الحرب نتيجة غضب غير مسموح به لبلد بهذا القدر الشاسع من القوة والمصالح.

صحيفة العرب