عندما بدأت رياح “الربيع العربي” تعصف ببعض دول المنطقة، زعم مراقبون وخبراء أن هذه الرياح ستصل إلى دول الخليج العربي. وكثرت التحليلات والتوقّعات، التي لم تخطئ حين روّجت لفكرة أن الأحداث التي شكّلت منعرجا تاريخيا غيّر المنطقة ستغيّر دول الخليج أيضا؛ لكنّها أخطأت في قراءة طبيعة هذا التغيير وصوره وسياساته، وأخطأت في تقدير تأثيره وحماسته التي يستمدّها من القيادة الشابة التي تمّ رفد الحكومات الخليجية بها.

يقول الخبراء إن العمل على تحميل الشباب مشعل القيادة في دول الخليج انطلق منذ سنوات، حيث كانت القيادات الخليجية الحاكمة تعدّ لانتقال السلطة بطريقة هادئة إلى جيل شاب أكثر انفتاحا وأكثر دراية بما يدور على الساحة العالمية، ما يؤكد انتهاج سياسة بناء دولة مختلفة عن تلك التي كانت سائدة على مدار عقود طويلة؛ لكن التغييرات التي طرأت على المنطقة، ثم وصول الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى الحكم في المملكة العربية السعودية وانطلاق عملية الحزم في اليمن، كل ذلك سلّط الضوء على هذا التغيير الذي بدا مفاجئا للبعض، خصوصا للغرب الذي اعتاد على رؤية دول الخليج والمنطقة العربية في صورة التابع له.

لم تهتمّ مراكز الدراسات والأبحاث الغربية من قبل بخطوات التغيير التي تسير على هديها السياسات الداخلية الخليجية، بل انكبّت تبحث عن أزمات وخلافات بين أفراد هذه العائلة الحاكمة وتلك، وتروّج لها وتعمل على تضخيمها ومحاولة تسويقها ضمن سياسة تقوم على فهم خاطئ يرى في هدوء دول الخليج العربي وتعاملها بالمبادئ الدبلوماسية واحترام سياسة حسن الجوار وعدم تصدير المشاكل ضعفا وتبعية للخارج لا يمكن فصلها.

لكن، تبيّن أن الفصل ممكن وأن دول الخليج، بقيادة المملكة العربية السعودية، قادرة على اتخاذ قراراتها بشكل منعزل وعلى فرض موقفها وسياستها بما يناسب مصالحها العليا، وأثبتت أنه بينما كان الغرب يبحث عن فضائح كانت الحكومات الخليجية تعمل على ترسيخ إصلاحاتها الداخلية وتعزيزها بما يرفد، عند الحاجة، سياستها الخارجية، وهو ما تجسّد فعلا وقولا منذ أن أعلنت السعودية عاصفة الحزم في اليمن.

ومثلما فرض هذا التغيير على صنّاع القرار الأميركيين مراجعة مواقفهم وسياساتهم في التعامل مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، فرض أيضا على مراكز الأبحاث والدراسات، مراجعة طريقة تغطيتها للمنطقة والتعاطي مع مواضيعها.

في هذا السياق تتنزّل دراسة مجلة شؤون دولية (فورين آفيرز)، التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، وفيها يسلّط الباحثان بيكا ويسر وجيف مارتيني الضوء على الجيل الجديد من الزعماء الخليجيين، الذي سيفرض على الولايات المتحدة، وعموم القوى الغربية، أن تتوقف عن اختزال علاقاتها بالخليجيين في النمط المعتاد: مجموعة من الدول الثرية تبيعها السلاح مقابل المساهمة في محاربة الإرهاب. لكن، المشهد يتغيّر سريعا وأصبحت مراكز صناعة القرار تنضح بدماء الشباب، بما يخلق توازنا يجمع بين خبرة القادة الشيوخ وحماسة وطموح القادة الشباب، مثلما يوازن بين المحافظة والانفتاح.

 

تغييرات مؤثرة

 

في 27 يناير الماضي، قام أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، البالغ من العمر 35 سنة، بتعيين الشيخ محمد بن عبدالرحمان آل ثاني وعمره 35 سنة فقط، وزيرا لخارجية قطر. وفي العاشر من فبراير الماضي أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات حاكم دبي، عن مجلس وزارة إماراتي جديد يتضمن ثمانية وزراء جدد بمعدل أعمار في حدود 38 سنة. وضمّت هذه الحكومة أصغر وزيرة لشؤون الشباب في العالم (22 عاما)؛ ما يعكس بحقّ الاهتمام الكبير الذي توليه القيادة الرشيدة للشباب.

وكانت الإمارات سبّاقة في تعيين شباب في مناصب قيادية حيث يتولى الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزارة الخارجية منذ 2006، وكان في الثلاثينات من عمره حين تسلمها، وشغل قبل ذلك منصب وزير الإعلام والثقافة منذ عام 1997، وكان حينها يبلغ 25 عاما.

 

 

 

 

وكان من أوائل القرارات التي اتخذها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، إثر تسلمه مقاليد الحكم في يناير 2015، فتح المجال أمام جيل شاب لتولي مواقع أساسية، في خطوة مخالفة للتقاليد السائدة، حين عيّن الأمير محمد بن نايف (56 عاما) وليا للعهد، والأمير محمد بن سلمان (29 عاما في حينه) وليا لولي العهد ووزيرا للدفاع.

ملامح القيادة الخليجية بصدد التغيّر وهي تزداد تشبيبا بكل تأكيد، فيما بدأ الجمود بين الأجيال في الاضمحلال، وهذا يعني قدرة أكثر على إنجاح هذا التوجه لدى بلدان الخليج، في وقت تمرّ فيه بنشاط سياسي مفعم بالتحركات العسكرية والأمنية، حيث لا تزال ومنذ قرابة عام تقوم بعملياتها ضمن التحالف العربي في اليمن الذي تقوده الرياض، ويحقق نجاحات بهدف استعادة الشرعية للحكومة اليمنية، إضافة إلى دورها البارز في أزمات المنطقة وعلى رأسها الأزمة السورية، والتصدّي للنشاط الإيراني في المنطقة وتدخلات طهران المستمرة في دول الخليج، إضافة إلى انتشار وتمدّد الحركات والميليشيات المسلحة ذات الفكر الديني المتشدّد والمهدّد للمجتمعات الخليجية.

 

مسايرة الأزمنة

 

تتوقّع دراسة شؤون دولية أن يعمل الجيل الشاب من قادة الخليج على ترسيخ نموذج الحكم الرشيد، الذي يركز على تقديم الخدمات العامة بشكل ناجع وعلى تحسين إدارة الأمور العامة ومتابعة الإصلاحات الاقتصادية التي تضمن الرفاه والازدهار على المدى الطويل من دول مجلس التعاون الخليجي.

وقد تقدم الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي، بأفكار وقرارات تؤكد هذا التوجّه فضلا عن زيادة خطط طموحة من أجل المزيد من الاعتماد على النفس في الأمن القومي.

وسعى ولي عهد أبوظبي، ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الشيخ محمد بن زايد، البالغ من العمر 54 سنة، إلى تبسيط البيروقراطية الحكومية عبر تعزيز تكنولوجيا المعلومات، وتبني مبادرات الحوكمة الرقمية، والتركيز على الابتكار وتقوية اليد العاملة الوطنية في بلديهما. ومؤخرا سنّت الإمارات سلسلة من الإصلاحات لنظام الدعم تهدف إلى تقوية الاستقرار الاقتصادي، وهو مشروع تقدم به الشيخ محمد بن زايد وحقق نجاحا نسبيا.

يعتبر مجال الدفاع، من أبرز المجالات التي ظهرت فيها بصمة الشباب، ما يبشر بعهد جديد ومختلف من النشاط العسكري في المنطقة. وأبرز مثال على ذلك الإقرار بأن ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان هو مهندس عاصفة الحزم التي تتزعمها المملكة العربية السعودية في اليمن؛ وقد اختارته مجلة سياسات خارجية (فورين بوليسي) الأميركية، كإحدى أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم. وقالت المجلة إن سبب اختيار الأمير محمد بن سلمان هو الدور الفاعل وواضح الأثر الذي يقوم به منذ توليه منصب وزير الدفاع في السعودية.

ينوي الزعماء الخليجيون الشبان بناء جيوشهم بالاستثمار في تطوير قوات العمليات الخاصة وتنويع التعاون الأمني بهدف تجنب التعويل المفرط على الولايات المتحدة باعتبارها الضامن الوحيد، فمثلا التزام الإمارات بتطوير جيشها أمر يتجاوز مجرد توجه عابر، وهو ما عكسه اعتمادها مؤخرا على نظام التجنيد، وهي خطوة اتخذتها أيضا قطر.

زعماء المدرسة الجديدة

 

يتوجب على صانعي السياسات الغربيين أن يتجاوزوا الصورة النمطية عن القيادة الخليجية على أنها ضعيفة، فهذه الصورة طالما كانت مبالغا فيها وهي الآن أقل دقة وتحمل مخاطر الوقوع في سوء الفهم حول التوقعات المتغيّرة للشركاء الخليجيين وتسيء تقدير جدّية القيادة الخليجية الجديدة وردّة فعلها على ما يضرّ بمصالحها وأمنها.

يوفر بروز جيل جديد من الزعماء الفرصة للولايات المتحدة لتحيين مطلوب بشدة للاستراتيجية الأميركية في الخليج. لقد استكانت واشنطن طويلا إلى معادلة متوقعة تتمثل في تبادل الأسلحة والمعدات العسكرية مقابل المساندة في مكافحة الإرهاب. وتمثل مبيعات الأسلحة العمود الفقري لتعامل الولايات المتحدة مع المنطقة، لكنها يمكن أن تعطي أيضا انطباعا ساخرا بأنه يمكن قياس العلاقات الأميركية السعودية وفقا لعدد الذخائر الموجهة، وأن العلاقات الأميركية الإماراتية يمكن أن تحدد بعدد صفقات طائرات أف- 16.

في ظل استثمار القادة الشبان في الحوكمة الرقمية وتنمية القطاع الخاص ومبادرات الابتكار، ستكون أمام واشنطن خيارات أوسع للتعاون مع القوى الإقليمية. وهذا بدوره سيساعد البلدان الخليجية على بناء قدراتها وتنمية الثقة وتوسيع العلاقات مع الولايات المتحدة.

بناء على هذه المعطيات، تخلص دراسة شؤون دولية، إلى أنه يتوجّب على الولايات المتحّدة أن تخاطب قوى المنطقة الصاعدة بقدر من الصراحة المباشرة، كما طلب ولي ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان في قوله “ما أطلبه هو أن تقولوا ما تعتقدون به فعلا”.

الحل الحقيقي لمشاكل الغرب مع الخليج ليست دائما تقديم المزيد من الأسلحة، كما أنه بالتأكيد ليس في تغذية التنافس السعودي الإيراني. مثل هذه التغييرات لا تحدث كثيرا، وسيكون من المؤسف ألا تستغلها الولايات المتحدة، لبناء علاقات أكثر وضوحا وفائدة.

 

صحيفة العرب