أرخى قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالبدء بسحب الأساسي من قواته الجوية وغير الجوية من سوريا الذي جاء مفاجئا للجميع بظله على أجواء جنيف وعلى المسؤولين والمفاوضين والدبلوماسيين الذين يرافقون المفاوضات من مجموعة الإشراف على وقف النار وبالمقام الأول على المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. ومنذ أن أعلن القرار، دارت التساؤلات والتحليلات على مغزى القرار وتوقيته وتداعياته على المسار التفاوضي الذي شهد عصر أمس أول لقاء رسمي بين دي ميستورا وبين وفد المعارضة السورية المنبثقة عن مؤتمر الرياض في شهر كانون الأول الماضي.

 

وقالت مصادر دبلوماسية غربية التقتها "الشرق الأوسط" في جنيف أمس مطولا إن القرار الروسي "شكل مفاجأة لها"، خصوصا أنها لم تلحظ أية مؤشرات تدل على حصوله. وكشفت هذه المصادر لـ"الشرق الأوسط" أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي حضر يوم الأحد الماضي اجتماعا في باريس ضمه إلى نظرائه الفرنسي والبريطاني والألماني والإيطالي و"وزيرة" خارجية الاتحاد الأوروبي "لم يأت إطلاقا على ذكره أو التلميح إليه"، مضيفة أنه استخدم "لغة فجة" داخل الاجتماع للتعبير عن "غيظ" أميركي إزاء التعاطي الروسي في مرحلة وقف الأعمال العدائية. وذهبت هذه المصادر إلى ترجيح أن يكون الطرف الروسي قد فاجأ أيضًا واشنطن بقراره.

بيد أن هذه المصادر وبانتظار أن يتبين بشكل أفضل مدى الانسحاب الروسي وترجمته ميدانيا وطبيعة القوات المنسحبة والأخرى التي ستبقى في سوريا والمهمات التي ستقوم بها، فضلت الالتزام بموقف "حذر" إذ إن موسكو "عودتنا على المفاجآت". ولكن بانتظار جلاء المواقف، فإن المصادر الغربية تطرح عدة فرضيات أولها أن تكون القرار الروسي "عقابًا للرئيس الأسد" لأنه لم يتعاون أو لم يستجب تماما لما تريد موسكو أن يقوم به بعد أن أخذ يشعر أنه في وضع قوي بفضل التدخل الروسي الكثيف الذي بدأ نهاية أيلول الماضي. وبحسب هذه المصادر، فإنه إذا صحت هذه الفرضية فإن الأسد يكون قد ارتكب "خطأ فادحا لن يفلت من دفع ثمنه" باعتبار أن روسيا وفرت له بداية مظلة الحماية السياسية والدبلوماسية الدولية في الأمم المتحدة والمحافل الأخرى ومدته بالسلاح والعتاد والخبرات العسكرية قبل أن تهب لنجدته عندما وجدت أن وضعه العسكري قد تدهور وأن نظامه أصبح مهددا حقيقة.

أما الاعتبار الثاني الذي تتوقف عنده المصادر الغربية فيمس التكلفة المادية للتدخل الروسي رغم أنها تعتبر أن حرب روسيا في سوريا تدخل في باب الحروب "منخفضة الكلفة" لاعتبارات عسكرية وتقنية ونوعية الأسلحة المستخدمة وخلاف ذلك. بيد أن الوضع المتردي للاقتصاد الروسي لجهة تراجع أسعار النفط والغاز وحالة الميزانية الروسية يرجح أن تكون قد لعبت كلها دورا في حمل بوتين على اتخاذ قرار الانسحاب المفاجئ "كما اتخذ قرار التدخل الكثيف المفاجئ". ولا تستبعد هذه المصادر أن تكون موسكو قد سعت لقطع الطريق على عقوبات اقتصادية أميركية جديدة عليها، خصوصًا أن الوزير كيري كان قد أعلن أن فشل الهدنة سيعني اللجوء إلى خطة بديلة قد تكون عسكرية عن طريق تقديم دعم عسكري أقوى نوعيا وكميا للمعارضة أو فرض تدابير اقتصادية مشددة على روسيا. وفي أي حال، ترى هذه المصادر أن موسكو بررت تدخلها بالرغبة في ضرب التنظيمات التي تعتبرها إرهابية وعلى رأسها "داعش" و"النصرة". والحال أن هذه الهدف لم يتحقق رغم آلاف الطلعات التي قام بها الطيران الروسي. أما الهدف الثاني المتعلق بضرب المعارضة المعتدلة فهو الآخر لم ينجز لأن المعارضة رغم الأراضي التي خسرتها ما زالت قائمة وهي موجودة في جنيف للتفاوض وعادت فرض عملية الانتقال السياسية التي يريد النظام السوري الهروب منها على رأس جدول المفاوضات. وترى هذه المصادر أن الهدف الوحيد الذي حققته موسكو هو إنقاذ النظام في الوقت الراهن، مما يعني أن الحرب «ستستمر وأن روسيا ستجد نفسها غارقة في أوحالها وهذا ربما ما سعى بوتين لتلافيه» عبر قرار الانسحاب.

ولكن ما هي تبعات القررا الروسي على النظام؟

تقول المصادر الغربية إن النتائج مرتبطة عضويا بمدى الانسحاب وبالدور الذي سيعطى للقوات الروسية المتبقية في سوريا. ولكن الثابت أنه "سيشكل ورقة ضغط قوية على النظام" وسيحدث "انقلابا" في المفاوضات، الأمر الذي يفترض أن ينعكس على طريقة تعاطي دمشق مع المرحلة الجديدة وطبيعة أداء وفدها إلى جنيف. والسؤال الذي سيطرح نفسه في الأيام والأسابيع القادمة، يتناول قدرة النظام على المقاومة والبقاء واقفا على قدميه ورفض الضغوط إذا اتخذ الانسحاب الروسي طابعا جامعا.