«نحن فقراؤهم»، هذه العبارة عرّف بها أحد الناشطين في منطقة باب التبانة في مدينة طرابلس اللبنانية عن نفسه وعن جماعته. أما «هم» فعنى بها أغنياء المدينة الذين يقيمون في الجزء غير الفقير من طرابلس. «هم لا يعرفون كيف يصبحون أغنياء من دون أن نكون نحن فقراءهم»، كرر الناشط تعريفه العلاقة بين جماعتي المدينة.

 

 

والحال أن لفقراء طرابلس لغة يتحدثون بها عن «أغنيائهم» تشي بأن قطيعة كبيرة واقعة بين الجماعتين، وترسم حدوداً للأذواق وأنماط العيش والخيارات، وتشعرك بأن مئات الأمتار، هذه التي تفصل بين سكن كل منهما، هي مسافات هائلة.

 

 

«نحن فقراؤهم الذين يستشعرون غِناهم من حقيقة أننا فقراء»، وعندما تسمع هذه العبارة في باب التبانة، المنطقة الأشد فقراً في لبنان، تعتقد أن صراعاً طبقياً قاسياً يسود العلاقة بين الطرابلسيين، وأن هؤلاء الفقراء الذين يُدركون أن فقرهم امتداد لغنى أقاربهم في الطرف الآخر من المدينة، هم في سياق مواجهة هذا الفقر عبر الجهر بقبح غنى الأقارب في السكن وفي الأرحام المشتركة. واعتقادك هذا ليس في مكانه، ذاك أن الفقر في طرابلس شيء مستقر ومقيم، وهو امتداد لزمن ولمكان ولهوية. وهو يكاد يكون جزءاً من طبيعة الأشياء، متصلاً بوقائع سابقة على انقسام الأذواق والمشاعر وعلى فصامها.

 

 

لا تعيش طرابلس صراعاً طبقياً، والخط الواضح الذي يفصل فقراءها عن أغنيائها ليس خط مواجهة على رغم ما يشهده من توتر. الفقر الهائل في المدينة امتداد لغنى هائل. وطرابلس التي أنجبت من المال سياسة وسياسيين، أنجبت أيضاً من الفقر حروباً ومقاتلين. ومثلما يرتبط المال بالفقر في المدينة، ترتبط السياسة بالحروب. ومن أوضح الأمثلة على هذه المعادلة المأسوية اليوم، البطالة التي يتخبط بها آلاف الشبان من أبناء أحزمة الفقر في المدينة بفعل توقف القتال في منطقة باب التبانة وبعل محسن. ذاك أن الجبهة هناك كانت قبل توقفها قبل نحو سنتين مصدر عيش لمئات من الشبان ممن كان سياسيو المدينة الأغنياء يمدونهم بالسلاح والذخائر، وبمخصصات زهيدة توفر بعض الخبز لعائلاتهم. وكان السياسيون أكثر لاعني الحرب وباغضيها، وأكثر مموليها ومُشغلي جبهاتها. وهذه لعبة يُدركها السياسيون والمقاتلون على حد سواء. «كانوا يقولون لنا انتم عليكم أن تحاربوا ونحن علينا أن نلعن الحرب»، هذا ما قاله حرفياً أحد قادة المحاور في طرابلس.

 

 

والفقر في طرابلس ليس امتداداً لفقر لبناني، ليس لأن لا فقراء في لبنان، انما لأن الفقر الطرابلسي فقر أممي عابر للخصائص الوطنية، فيمكنك أن تجد فيه أثراً للفقر في باكستان مثلاً، كما أنه يمد جسوراً مع فقراء مصريين، ويحفه اغتراب يغذيه بصور عن فقر أوروبي اقتلاعي، فيجعل للعائلة الفقيرة في حي المنكوبين إبناً سلفياً في السويد، وابنة متزوجة من ابن خالتها الحموي، وحفيداً يعمل سائقاً عند أبو العبد كبارة (النائب محمد كبارة).

 

 

لكن الأهم من ذلك أن الفقر الطرابلسي فقر وظيفي يكاد يكون جوهرياً، فطرابلس كما جُعلت ليست طرابلس من دونه، وهو إذا ما عولج بصفته آفة، تفقد وظيفة أساسية من وظائفها. فعلاج الفقر، بالإضافة إلى أنه يحرم الحرب من المقاتلين، يمكن أن يحرم التاجر من سائقه، وسيدة المنزل من فرصة ان يكون في منزلها طباخة تأتي في الصباح من باب التبانة حاملة وعاء «الورق عنب» الذي أمضت الليل في إعداده.

 

 

وإذا كان هذا التقسيم بين غني وفقير طبيعياً في المجتمعات الحديثة، إلا أنه في طرابلس ليس كذلك، ذاك أن ثمة مقاومة لأي رغبة في الانتقال بالفقر إلى سوية الفقر الحديث، أو إلى «دمقرطته» وعزله عن وظائفه التخلفية. الفقر هناك يجب أن يبقى أسير الوظيفة التي حددها له الغنى، وهو على رغم أنه جزء من فقر أممي، إلا أن وظائفه شديدة المحلية، وهو عندما يُفلت من هذه الوظيفة، انما يفعل ذلك في سياق التحامه بعبث أشد فتكاً ليس «داعش» صورته الوحيدة.

 

 

ليس من العبث الإشارة إلى أن أبرز سياسيَين طرابلسيَين جاءا إلى السياسة والعمل العام من موقعهما الماليين، وهما الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي، ويُضاف إليهما سياسيون رجال أعمال من أمثال النائب أحمد حبوس، ويأتي أيضاً نفوذ تيار المستقبل، وهو النفوذ الأبرز في المدينة، في سياق تقدم الشرط المالي في الاعتبارات السياسية. وكل هذا لم يكن له أثر لجهة تعديل ميزان الفقر في المدينة بما يتيح استئناف وظائف أخرى لأحزمة البؤس فيها.

 

 

نجيب ميقاتي قدم لفقراء المدينة تياراً سياسياً أطلق عليه اسم والديه (تيار الـــعزم والسعادة)، وآل كرامي أقفلوا مدرسة لهم فـــي حي المنكوبين في أعقاب خسارتهم في الانتخابات النيابية فيها، واليوم باشرت القوى والشخصيات المرتبطة بتيار المستقبل عبر مجلس الإنماء والإعمار مشروع مرأب للسيارات في ساحة التل بكلفة 20 مليون دولار، هي آخر ما يحتاجه فقراء المدينة، ناهيك عن روائح صفقات تحوم حول عقوده.

 

 

اليوم وبعد نحو سنتين على إقفال محاور القتال بين باب التبانة وبعل محسن، تبدو هذه الأحزمة بلا وظيفة تركن إليها. الحرب لم تضع أوزارها، فهي لم تكن يوماً لأن احتقاناً يسود العلاقات بين الجماعتين السنية والعلوية، بل لأن وظيفة أنيطت بأهلها، وهي القتال إلى جانب أعمال متعثرة أخرى. وها هو بلال يقف اليوم على شرفة منزله المُطل على باب التبانة، ويشير إلى مناطق أغنياء المدينة، ويقول: هؤلاء يكرهوننا.