قد يصح إطلاق تعبير «واقعة إربد» على ما حصل في المدينة الأردنية قبل أيام عندما هاجم الأمن الأردني مجموعة من 7 انتحاريين من «داعش» كانوا، وفق بيان الأمن، يستعدون لتنفيذ عمليات ضد أهداف أمنية وعسكرية. وكان سبق الحدث اعتقال الشرطة الأردنية 13 من أعضاء الخلية نفسها.

 

 

نقول «واقعة إربد» لأن المدينة الأردنية الشمالية هي مدينة الجيل الثالث من «المجاهدين» الأردنيين، أي مدينة المرحلة السورية في الجهاد، بعدما كانت السلط مدينة الجيل الأفغاني الأول، والزرقاء مدينة الجيل العراقي الثاني. هذا الوصف وإن انطوى على بعض التعسف والتعميم، فإنه لا ينفي حقيقة أن إربد أكثر من أرسل مقاتلين إلى سورية من بين مدن الأردن، إذ توجه من أبنائها أكثر من 250 شاباً للقتال هناك، والتحقت غالبيتهم بتنظيم «داعش».

 

 

لكن إربد التي التحقت بمدينتي الزرقاء والسلط الأردنيتين عبر تصدرها «الجهاد» في سورية، حملت أيضاً من مرحلة «الجهاد السوري» ملامح كان سبق لشقيقتيها أن حملتا ما يماثلها من ملامح الجهاد. السلط، المدينة الشرق أردنية، ومدينة عشائر السلطة والدولة، فيما الزرقاء المدينة ذات الغالبية الفلسطينية التي التحق «مجاهدوها» بفتوة شرق أردني من المدينة، هو أبو مصعب الزرقاوي، وها هي إربد المدينة المختلطة السكان والعشائر والعائلات الشامية، تُصَعّب على السوسيولوجيا مهمة رد «الجهاد» إلى مؤشرات البيئة المحلية، وتجعله مخترقاً المؤشرات والملامح التي لطالما أعيد إليها.

 

 

ويقال «واقعة إربد» لأن الحدث يجب أن يكون مؤسساً لفهم مختلف لـ «الجهاد» لا ينفي ما قبله، إنما يفترض الانتقال بالتفسير إلى مستوى مختلف. ذاك أنه من الصعب على مدينة الأخلاط الجهوية والعشائرية والعائلية أن تحفظ لـ «الجهاد» وجهه الذي وسمته به مدينتا السلط والزرقاء. ولعل ملاحظة الباحث محمد أبو رمان لجهة أن التيار «السلفي الجهادي» وعلى رغم توسعه في المدينة ليس تياراً اجتماعياً، بل هو معزول ونخبوي، تصلح كقاعدة لفهم مختلف لهذه الظاهرة العنفية، في الأردن وفي خارجه.

 

 

فحكاية إربد مع «الجهاد في بلاد الشام» متصلة بوظائف غير جديدة تؤديها المدينة في سورية، بدءاً بعشائرها الحورانية ومروراً بالعائلات الشامية التي استقرت في المدينة منذ نشوء المملكة، ووصولاً إلى السكن الفلسطيني وإلى مخيم النازحين الفلسطينيين فيها، وهذه كلها عوامل أضيفت إليها الحقائق الجديدة المرتبطة بالتيار «السلفي الجهادي» المنقسم في الأردن بين تنظيمي «داعش» و «النصرة»، مع غلبة للأول في أوساط الشبان والأجيال الجديدة من المتطرفين، وللثاني في أوساط الشيوخ وأبناء الجيلين الأول والثاني من «المجاهدين». لكن، يبدو أن إربد كسرت هذا التقسيم، فقد تصدر مناصرو «داعش» فيها وجوهاً من غير الجيل الشاب في التيار. الداعية عبد شحادة الطحاوي المسجون حالياً، شكل على ما يبدو نقطة جذب مهمة للتنظيم في المدينة، وكذلك عمر مهدي زيدان وهو أحد أمراء التنظيم في الرقة. ويبدو أن للمخيم الفلسطيني في المدينة دوراً أيضاً في انتزاع إربد قصب السبق في «الجهاد»: فمثلما ارتبطت عشائر المدينة بالحرب في سورية عبر عمقها في حوران، ارتبط فلسطينيوها بفلسطينيي سورية واستقبلوا لاجئين هاربين من مخيم اليرموك.

 

 

وحقيقة أن «داعش» ليس خياراً اجتماعياً سواء في إربد أو في غيرها من المدن، لا تخفف من حقيقة أن التنظيم تمكن من أن يفتك بالوحدات الاجتماعية الصغرى، ومن أن يحجز مكاناً له في التركيبات المتفككة والناجمة عن حركة التمدين. فأن يلتحق نحو 300 ناشط سلفي من المدينة بـ «الجهاد» في سورية، فإن الأمر ظاهرة تستحق وصفها بأنها فعل اجتماعي. وعدم انسجام الملتحقين بـ «الجهاد» بمنظومة أو بسياق من النوع الذي دأب الأردن على تفسير الجهاد به (فلسطيني أو شرق أردني أو طبقات فقيرة أو متعلمين...)، يدفع إلى التفكير في مدى تزويد انهيار الأنساق «الجهاد» بالمتطوعين. فالفلسطيني يذهب إليه في سياق تصدع فلسطينيته، والعشائر الأردنية الحورانية المترنحة الوظائف والأدوار والتي صدعها الاختلاط، فَقَد الكثيرون من أبنائها المناعة حيال احتمال الانشقاق.

 

 

بهذا المعنى، فإن التفسير يجب أن ينتقل إلى البحث في تبعات تخفف الدولة عموماً من مسؤوليتها حيال مشهد اجتماعي مستجد. فالتحديث يتمّ بموازاة معـــــدلات فقر كبيرة، والتعليم، وإن صـــار عاماً وشائعاً، إلا أنه لا يقي من احتمالات العنف، والاختلاط في هذه البيئة ظاهرة غير صحية، ذاك أنه يُضــــعف الانسجام من دون أن يُقدم بدائل له. وفي ظل كـــل هذه المتغـــيرات، ينفجر بلد مجـــاور ومتصل بالمدينة عبر أكثر من قناة، بأزمة كبرى لا يبدو أن النجاة منها احتمال راجح.

 

 

«داعش» في أحد وجوهه هو هذه الانهيارات الصغرى والمتمادية، وهو أيضاً عجزنا عن إعادة صوغ ما يخلفه تحديث عشوائي في جسم اجتماعي متصدع أصلاً.