تضيق الحيطان الأربعة بضجيج أسرار عائلاتٍ تكوّنت على عرش اللعنة. يلمس الزوج بطن زوجته المتكوّر، ويهلّل لقدوم ابنه المنتظر. الطفل آتٍ، تستقبله أيادٍ مغمّسة بالقذارة. يكون الأب أحد أعضاء عصابة، أو مغلوبًا على أمره وليس مخوّلًا تحمل مسؤولية تأسيس عائلة. أمّا الأم فرهينة أو لعينة أو مسكينة، منضوية في ركب عار عيون رجلها الذي لا تقوى الملامح على إخفائه. في لحظة الإستهلال تلك أكثر من غصّة.

يا ليت تلك البذرة لم تتجسد على شكل جنين. تلعب الأيام لعبتها، وينشأ الولد في بيئةٍ نتنة، ويعتاد رسم أفعال بيئته في المخيّلة وكتمها في حيطان أربعة.

وهو حين يرتدي ثياباً أنيقة ويمشّط شعره العبيّ، ينظر في المرآة من حدود عالمٍ آخر. قد يحلم لو أنه كان إنسانًا آخر للحظات، أو أنه لم يزر يابسة الأرض.

وحين تضيق به الحقيقة، يسمع صوت جلّادٍ يناديه: "اذهب واقتل نفسك اليوم". تكرّ سبحة الأوامر مع كلّ استفاقة صباح: "اذهب واقتل نفسك اليوم". يأتي الجواب على شاكلة فعل.

يعود الولد الى المنزل مقتول الهوى والهويّة، وحين يعتاد تكرار مظاهر الموت، يغرق في الدهليز أكثر كي ينسى صورة المرآة والعالم الآخر.

يحلّ عامه الثامن عشر، فيهلّلون له بين الحيطان الأربعة، ويفرحون به قبل أن يبعثوا به الى زقاقٍ صغير كي ينفّذ عمليّة نصبٍ بالتنسيق مع العصابة. هو لا ينسى أن في تملّقه تملّقين. تملّقٌ اكتسبه بفطرة أيام اليفاعة، وآخر أقنع نفسه به كي ينسى أن في الحياة عالماً جميلاً لم يعشه... كي ينسى صورة المرآة والعالم الآخر.  

من لبنان الى تركيا...

الذكريات النتنة يقول المثل اللبناني الشائع: "الآباء يأكلون الحصرم والأولاد يضرسون". هي معادلةٌ صعبة حين يستبدل الزمان درع أمان الطفولة بمجرمَين، فيتحوّل الأهل على شاكلة لعينِ حقلٍ مخيف الهيئة والمضمون.

ولعلّ قصّة الطفل اللبنانيّ وائل، تفتح السجال حول تورّط بعض العائلات في قتل براعم الطفولة ومساهمتهم المباشرة كانت أو غير المباشرة في تدمير أولادهم نفسيًّا واجتماعيًّا.

يروي رئيس جمعيّة جاد، شبيبة ضدّ المخدّرات، الأستاذ جوزيف حوّاط، حكاية هذا الولد الأليمة التي بدأ يعايشها عن عمر 15 عامًا: "نشأ وائل في ظلّ بيئة عائليّة غير سليمة لم تُعنَ بتربيته وحمايته، بيد أن محيطه السكنيّ كان مليئًا بتجّار المخدرات ومدمنيه.

والده لم يكن مهتمًّا به، وعانت والدته أوضاعًا صحيّة حرجة.

لم يتبقَّ لوائل سوى شقيقه البكر البالغ من العمر 30 سنة الذي رفض الاعتناء بأخيه أو الاعتراف به". لم يجد ابن الخمسة عشر عامًا ملجأً يقيه جليد العائلة المتصلّب، فاختار اللجوء الى منزلٍ مهجورٍ، حيث كان يلتقي بصحبة السوء هناك في ظلّ غيبوبة الأهل. كان العالم الممنوع ييتلع حياته بهدوء، فاعتاد تبني سلوكات مشينة كتعاطي المخدرات، وتقرّب من تاجرٍ راح يزوّده بالبضاعة من دون مقابل.

ويشير حوّاط الى أن "فصول قصّة المراهق الصغير تطوّرت في ما بعد، حين بات التاجر يستغلّه في عمليّات ترويجٍ ويبعث به لتلبية خدمات جنسيّة شاذّة يوميًّا بصحبة رجالٍ وشبّانٍ مقابل بدلٍ ماديّ يستفيد منه التاجر بنفسه".

بقي وائل يصارع المصير الأسود حتّى علمت شابة مندفعة لمساعدة اللأطفال المشرّدين بقصّته وقصدته بهدف مدّ يد الإنقاذ لمستقبله، واصطحبته الى جمعيّة "جاد" للمعالجة وإعادة التأهيل على رغم محاولات التاجر عرقلته وإرسال الممنوعات له الى وجهة سكنه. اليوم، وبعد انتهاء فترة علاجه، تمكّنت الجمعيّة من التواصل مع جدّي الطفل الموجودين في تركيا بعد رفض شقيقه التعرّف اليه، فانتقل للعيش في اسطنبول معهما، وتعرّف هناك إلى فتاة سيبادر بالزواج منها بعدما تجاوز عامه الثامن عشر.

ويعتبر حوّاط أن "التفصيل الأهم في القصّة هي نجاة هذا المراهق من عالم المخدرات، في حين أن 10% فقط من المراهقين الذين يُعالجون من هذه الآفة في لبنان يستطيعون التخلّص من رواسب الماضي والبدء من جديد، بيد أن نحو 90% يعودون الى ممارستهم المشينة في ظلّ انخراطهم في بيئة اجتماعيّة فاسدة وغياب الوجود الفعلي للأهل".  

العائلة الغائبة والعائلة المجرمة

هو غياب وجوديّة العائلة صوريًّا أو فعليًّا، أو وجودها وفق نهجٍ خاطئ يحمل في سجّله مسؤوليّةً أوليّة وواضحة في انسياق الأولاد في قصص الدراما.

هذا المفصل الأساسي في حياة الإنسان من شأنه أن يتحوّل معضلةً أساسيّة. وفي هذا الإطار، تشير المعالجة النفسيّة راشيل بردويل في حديثٍ لـ"النهار" الى أن "عدّة عوامل تدخل في سياق انخراط الولد في سلوكات تعاطي المخدرات وترويجها، وأهمها توفّر البيئة الحاضنة في محيطه السكني والتي تتمثّل بارتفاع نسبة المدمنين في الحيّ الذي يقطنه أو ظروف عائليّة غير سليمة من النواحي الماديّة والاجتماعيّة والنفسيّة، ما قد يدفعه قسرًا الى قبول هذا الواقع أو اللجوء اليه للهروب من مشكلات خاصّة.

وقد يساهم الأهل مباشرةً في استخدام أطفالهم لأغراض ترويجيّة، لكن تماهي الأولاد الذكور مع آبائهم وحبّهم للتمثّل بهم يدفعهم تلقائيًّا الى تبني سلوكات والدهم عن اقتناع كامل". نسألها: "الى أي مدى قد يعتقد الطفل أن تصرّفات أهله تندرج ضمن إطار الحياة الطبيعيّة في حال نشأ في بيئة غير سليمة منذ الصغر؟"، تجيب: "قد يعتبر الطفل في عمرٍ مبكر أن نموذج أهله الحياتيّ هو المثالي لكنّه في مرحلة المراهقة يعيد النظر في طريقة تربيته ويقارن بين واقعه وواقع محيطه المدرسيّ والمجتمعيّ، وهو في هذه الحالة قد يرفض الانخراط مجدّدًا في بيئته العائليّة، أو يستمرّ في المسلك نفسه لأنه لا يشعر بالأمان في حال تخلّص من نمط عيشه المعتاد".

وعن مدى ترافق تبنّي هذه السلوكات المنحرفة بعد بلوغ سنّ الرشد وشعور الفرد بلذّة اجراميّة في تنفيذ أفعاله المشينة، تقول: "غياب دور الأهل المسؤول ووجودهم ووعيهم لمصلحة أولادهم ينتج لدى الطفل لذّة في التلاعب بالقانون مما يؤثّر نفسيًّا على طرق تفكيرهم، إضافةً الى اعتيادهم الحصول على المال السريع ما يبقيهم أسرى هذه الدوامة بدلًا من تولّي عمل لقاء بدل شهري".

وحول استغلال المراهقين جسديًّا من التجار، تعتبر أن "عالم المخدرات هو واقع متكامل تنخرط فيه المسائل الجنسيّة في غالب الأحيان، لأن المراهق يعتبر نفسه مذنباً ويعتقد أن لا أحد سيتقبله سوى محيطه فيتورّط أكثر ويجد رغبة جامحة في التعرف إلى جسده بطرق غير سليمة ويشعر باللذة حتّى يصبح السلوك الجنسي لديه اعتيادياً، وتصبح حاجته الى ممارسة الجنس قهريّة، فيدمن عليها كإدمانه على المخدّرات ما يشوّه صورة الولد لنفسه ونظرته لجسده وهذا ما يحصل خصوصًا في صفوف الفتيات".  

قارب النجاة على رغم الصورة القاتمة، الّا أن المبادرة في طلب المساعدة تبقى الأساس. ماذا على المراهق الضحيّة أن يفعل كي يتخطّى الأزمة؟ وكيف ينجو مراهقٌ آخر من الوقوع في فخّ اللعنة قبل حدوثها؟ تشير بردويل الى عدّة إجراءات على الطفل اتخاذها لتخطّي واقعٍ غير مألوف مع بروز دور أساسي للمدرسة في تنشئة جيلٍ خالٍ من الشوائب: • من حقّ الطفل أن يرفض كلّ سلوك يخافه أو لا يرتاح لتنفيذه ولا يجد سببًا واضحًا للقيام به.

وفي هذه الحالة عليه تكوين شخصيّته بعيدًا من أجوائه العائليّة الخاطئة من خلال المطالبة بحقوقه الأساسيّة كالتعليم. • المدرسة هي العامل الاساسي التي يمكن أن تساعده في تخطّي محنته من خلال اكتساب القيم الصالحة وتنشأة علاقة متينة مع اساتذته، ومن هنا تأتي ضرورة إدراكه لحقّه في التحصيل العلمي. • على المراهق أن يدرك أن جسده ملكه الخاص، ولا يحقّ لأيٍّ كان مهما كان مقرّبًا منه أن يأخذ مبادرة في تقرير مصيرٍ يتعلّق بجسده. هذا ما يوفّر عليه قبول حتمّي للتعرّض لتعاطي المخدرات والجنس على حدٍّ سواء.  

لم يستطع وائل التأقلم مجدّدًا مع الأماكن التي تحرق قلبه وتدمي بصيرته في وطنه الأم، وقرّر الرحيل. لعلّه كان يردّد عبارةً واحدة في ذهنه: "يومًا ما سأرحل بعيدًا ولن أعود".

هو يعلم جليًّا أن الحياة لم تنصفه، لكّنها في المقابل أنقذته. هو هدير الطائرة من بشّره بالخلاص. في اسطنبول وجد عائلته الحقيقيّة، العائلة التي لم تنجب بل من ربّت. ما كان أجمل قصّة وائل لو أن حبل الصّرة لم يقطع معه صلة الأمومة، لكن حبل الحياة أعاد للعائلة معناها الحقيقيّ في خاطره... كي لا ينسى معنى الأمل في دنيا جميلة... كي لا ينسى هذه المرّة، صورة المرآة والعالم الآخر.

النهار