في الحلقة الأولى من الوهم تبين للقاريء الكريم كيف كانت فكرة المرجعية لدى فرقتنا الإثني عشرية فخذ المذهب الشيعي عبارة عن سد فراغ في النظرية العامة للفرقة إثر أزمة كادت تعصف بهذه الفرقة لتوضع في خانة النسيان كبقية الفرق الشيعية التي ذكرها جعفر سبحاني في كتابه فرق الشيعة التي فاقت السبعين فرقة ، فعصف بها عدم قدرة مريديها على ابتكار طرق تضمن ديمومتها ، وفلت من هذا القدر عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من فرق الشيعة ، وكل فرقة ابتكرت حيلة أو وسيلة لبقائها حاملة شعار تمثّلها للحقيقة دون سواها وكانت الإسماعيلية النزارية أوفقها إقناعا لأبنائها ، حيث إنها مازالت تلتف حول إمام حي حاضر من نسل آل محمد إلى يومنا هذا ، أما الفرقة الإثنى عشرية فنظرا لأن حيلتها أو وسيلتها التي استحدثتها إثر أهمية سد الفراغ بعد الإمام العسكري ، وتورطها بروايات أثبتها ثقتها الكليني في كافيه التي تؤكد أن الأئمة ثلاثة عشر ، وهنا لايمكن دفع ما أثبته الكليني بحجة ضعف الرواية أو سواه ، لأن رد مثل هذه الروايات سترمي رجلا عملاقا كالكليني بالحمق أو الجهل في معرفة عدد الأئمة ، إذ مجرد معرفته بعددهم يجعله رافضا بشدة لوضع هذه الروايات في كافيه مهما كان مستواها الروائي ، ولا مبرر لذلك أبدا ، ومن هنا تتفجر أزمة حقيقية ، يعمل عدد من دهاة الفرقة على صياغة مشروع لتدارك مايمكن تداركه ، فيصوغوا نظرية الغائب عج بغيبته الصغرى وسفرائه الأربعة ، حتى إذا انفجرت الأسئلة وكثر مدّعو السفارة من رجال الفرقة الكبار ، كان لابد من مرحلة ثانية تمثلت فيما سمي بالغيبة الكبرى ، وهنا تفجرت أزمة جديدة ، لم يكن هناك من حيلة لتلافي علامات استفهامها سوى إدعاء أن الفقهاء الذين مثلوا الفرقة على تواصل مع الغائب عج ، ثم إن طول الفترة وتداخل السياسي بالديني وسيطرة الفرقة الإسماعيلية عبر دولتيها الفاطمية والقرمطية على أغلب بقاع الدولة الإسلامية وحضورها كممثل أعلى للتشيع ، ثم سقوطهما وسقوط الدويلات الشيعية الأخرى ، ودخول الاستعمار على الخط ، كان لابد من ابتكار وسائل جديدة للحفاظ على الخط ، ومن هنا كانت فكرة المرجعية ، التي حاول مبتكروها أن يجعلوا للإثني عشرية مرجعا أعلى عبر مفهوم الأعلمية ليسد مكان الإمام ، لكن سرعان ما انهارت هذه المرجعية العليا ومفهوم الأعلمية ، من خلال تعدد المرجعيات التي نظرت بعين أو أخرى للأموال الطائلة التي كانت تتدفق إلى العراق وإيران من بلدان الخليج النفطية ، والتي تمثل ضريبة الخمس ، ولذا وضع كل مرجع له مجموعة وكلاء خصّهم بنسبة تتراوح من خمسة عشر إلى خمسة وعشرين بالمئة مما يحصّله من أموال الخمس ، وهكذا تفجر صراعان : صراع بين المراجع وآخر بين الوكلاء ، وللقاريء الكريم أن يلقي نظرة على صراع وكلاء المراجع في محافظة كالأحساء ليعرف حجم الفجيعة والمأساة ، وهذا ما سأخصه بعدد من المقالات فيما سيأتي لأهميته ، ما بين ذلك كله تكوّنت عقلية شيعية إثني عشرية مشتتة وتابعة ، بل متعبدة في تبعيتها لله كما تظن ، وانشغلت هذه العقلية بالانغماس بالفقهي والعقدي وطاردت التفاصيل وتفاصيل التفاصيل كما فعل بنو إسرائيل مع بقرتهم حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون ، وفي خضّم ذلك عاشوا بين دول تكونت سياسيا وأسست تشيعا طقوسيا كما هو عند الصفويين ، وبين فقهاء يحرّمون تكوين دولة شيعية في عصر الغيبة ليحرموا أتباعهم من فرص سياسية مهمة ويضعوا رقابهم بين السيف والمقصلة بعد الدويلات الشيعية المنهارة ، حتى إذا جاء الخميني المغضوب عليه حينها من حوزة النجف والمتهم بأنه تابع للإتحاد السوفيتي واخترق فكرة حرمة قيام دولة في عصر الغيبة ، دخل الإثنى عشريون على ضوء ذلك في تحوّل وصراع جديدين ، يتمثل في فقهاء معارضين للتحول الجديد ، وصراع آخر يتمثل في مواجهة التيار الديني السني في الخليج بالذات ، كل ذلك بدأ يغير خارطة ما كان ، ولست أدري كيف يفكر من هم في منطقة التأثير تحسبا للآتي ،  غير إن الجديد في هذا التحول إن العصر بكل تجلياته وتقنياته بدأ يقول كلمته ويستخدم أدواته الحديثه في تفكيك الحالة المذهبية وفهمها ، وهنا تقوم قيامة التيارات المتصارعة ، ويشغلها عن صد حالة الوعي التي بدأت تتفتق براعمها انشغالها بذاتها .  

                                 مع هذا التحوّل ينقسم أتباع الفرقة الإثني عشرية خاصة إلى فريقين : فريق سلفي متشدد يرى في المرجعية ووكلائها امتدادا للسماء وفي مالديه من إرث روائي أداة   للحفاظ على استمرارية الفرقة الإثني عشرية التي يرونها ممثلة للسماء ، وفريق آخر مجدد واع يرى أهمية مراجعة مالديه ومساءلته حتى لو أدى ذلك إلى نتائج صادم أو أغضب سلفي الفرقة ، ثم إنه يرى في هذه الفرقة كسواها من الفرق الإسلامية التي تولدت إثر صراعات سياسية ودينية ، وتوزعت ومازالت تتقسم حسب مصالح أتباعها وأنها لا تمثل السماء إلا بقدر صلاح بعض أتباعها الصالحين الصادقين .

  أزمة المرجعية إذن تتمثل في هشاشة العقل الذي صنعته ، وفي عدم قدرتها على لملمة أشلائها بعد أن وقع بعض مراجعها في خطأ تاريخي بإصدار فتاوى تضليل وتفسيق بحق منافسيهم من المراجع الآخرين ، واليوم يقفون في حيرة أمام طوفان ألوعي المتفجر لدى أبنائهم ، حتى إنهم لم يصادقوا على تهوّر بعض وكلائهم في إصدار أحكام على بعض المثقفين المؤسسين تأسيسا دينيا وأكاديميا في نقدهم للحالة المذهبية والطائفية .

  ونظرا لتحوّل تيار المثقفين الجدد الآتين من عمق طائفتهم لواقع بدأ بعض المراجع والوكلاء والمشائخ يتبنونه خيارا لهم ، تنبّـأ منهم أن هناك خارطة جديدة تتشكل ستغير عبر الزمن كل شيء ، وهذا ما أصبح يمثل واقعا يفرض ذاته ويبشر بطلائع حالة انعتاق من هيمنة المؤسسة الدينية على العقل الشيعي الإثني عشري الذي ضاق ذرعا بواقعه المأزوم ومضى يكسر جميع الحواجز التي تحجبه عن الآخر وعن العالم ، وتحرره من كونه مجرد تابع عامي يخضع لولاية ووصاية تتمثل في المرجع الذي لم يعد واحدا بل أصبح بعدد فرق الشيعة عبر التاريخ ، وكان ما كان مما سيذكره التاريخ جيدا !!

علي النحوي