"دعوا الأطفال يأتون إليّ"... ويا ليتنا لم نكبر يا ربّ كي نبقى لديك. هي رغبة كل كائن حيّ أن يبقى عمره متسمّراً في جذور الماضي، عند منعطف معيّن، أو لحظات محدّدة. هي رغبة حققتها مايا بشير الجميل.

ربما، لم ترد مايا أن تبقى، كي لا ترى الوحش في الإنسان، والسمّ في النفوس، والرجعية في الفكر. كي لا ترى الوفاء يموت بسيف النكران، والايمان يحترق في مبخرة التردّد، والصدق يختبئ في أوكار الكذب والاحتيال.

ربما، خافت مايا أن تشعر ببرد العدالة، فهربت، وبظلم القوانين العتيقة، فرحلت. خافت أن ترى أُسر مشرّدة من عاليه وبحمدون والدامور، ومن قنات وبلاّ، ومن بيروت الغربية إلى بيروت الشرقية.

ربما، خافت أن ترى أبناء السلاح الواحد يقتلون بعضهم بعضاً، من أجل مكسب، وكرسي، ومنصب، ومن أجل جمهورية "صغّروها" على قياس مصالحهم.

ربما، خافت مايا أن تُقتل بخنجر الخيبات، فترى شعبها مطبِّلا، وزعماء وطنها لصوصاً وفاسدين، وساستها ثعالب، وقادتها قوّاد.

ربما خافت من أن ترى مارد الخيانة يطوف ساحات الشرف، أن ترى الجمهورية تضل طريقها وتسقط بين "الهوليدي إن" و"المتحف"، وعلى خطوط تماس سوق الغرب ونهر الكلب والدورة وعين الرمانة وفرن الشباك، وضبيه وأدما.

ربما لم ترد أن تسمع أغنية الوطن تعزف على أوتار الرصاص، ووراء المتاريس، ومبادئ الوطن تنزف على طاولات التسويات والسمسرات والصفقات.

مايا بشير الجميل حلم طاهر، لفظ عذب، كأيّ طفلة من أطفال لبنان. رحلت، لأنّ وحشية الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية السوداوية التي يتحضّر آخرها اليوم لدخول مذبلة التاريخ، أرادت حرق الحلم، وضرب الوفاق، والسلام بين مكوّنات الوطن لكي تبقى هي، فذهبت مايا فداء.

رحلت مايا باكراً، في مثل هذا اليوم، دفاعاً عن المسيرة، وعن القضية وعن بشير. فكانت سخرية القدر التي تكلّم عنها المؤرخ الإغريقي هيرودوس، "في أوقات السلام الأبناء يدفنون آباءهم، وفي الحرب الآباء يدفنون أبناءهم". فبكى بشير على أميرته، ووضع بيده الحجر على قبرها.

لم تعش مايا طفولتها، ولا بشير عرف جيدا ضحكتها. لم يتركوا لها فرصة معانقة أبيها القائد، وغمره ببرائتها، وبحنانها. لم تسرد له حكايات يومها الطويل، ولا أخبرها عن يومياته على الجبهات وبطولاته في السياسة.

سرقوا قمة براءتها. فلم يتركوها تشاهد بشيراً يبكي على وطن ينزف، وشباب تستشهد، فتجلس بجانبه، ومن دون ان تعلم ما به، تبكي. وسرقوا من بشير، قبل أن يستشهد هو أيضاً، لحظات عميقة، دافئة، يشعر فيها بطفولته وببراءته لحظة يحتضنها بين ذراعيه.

مايا أجّلت المصيبة على لبنان، لكنها لم تمنعها. فبعد عامين ونيّف تقريباً على 23 شباط 1980، أي في 14 أيلول 1982، سرق الحلم، وراحت معه الجمهورية.

استشهاد مايا يظهر قساوة الحرب التي عاشها اللبنانيون. حرائق الموت التي أشعلت بلدنا من أقصاه إلى أقصاه. والمجازر التي ملأت مشاهدها الدموية وصراخ شبابها وشيوخها ونسائها صروح الأمم والمنظمات الدولية.
ستة وثلاثون عاما مرّت على استشهادها. لا نريد أن نكون متشائمين، بل حالمين أسوة بالقائد بشير.

سنأخذ دور المصوّر، ونجلس في الزاوية الأفضل لنعطي الصورة الأجمل، عن وطننا، وقضيتنا، ومسيرتنا عبر التاريخ، مسيرة مايا، وكل الذين سقطوا من أجل لبنان، ودفاعاً عن لبنان.

فلا تجعلوا أطفالنا حطب مشاريع سلطوية، ووقود الحروب الدائمة في هذا البلد.

من أجلهم، نتمنى، ونطلب من كل الغيارى والوطنيين، أن لا يسمحوا بسرقة البراءة والحلم، والطفولة من قلوب الأطفال. إحموا الطفولة في لبنان، بحرصكم على العائلة وعلى الإنسان في لبنان. إجعلوا من أيامكم، وغدكم، ومن وطننا، طفلا، علّنا نجد من يتقّن قراءة الدمع في عينيه من دون أن يبكي.

 

رولاند خاطر