كشفت عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت، في الذكرى الحادية عشر لاغتيال الشهيد رفيق الحريري، اهمية هذه العودة وتأثيرها على الحياة السياسية والدستورية المعطلة بمنع انتخاب رئيس للبلاد، بالطبع بحجج واهية. اذ ليس خافيا ان الحريري الابن، الذي غادر لبنان طوعاً منذ نحو خمس سنوات، كان تعرض لحملة سياسية توجت حينها بإقالة حكومته والاتيان بالرئيس نجيب ميقاتي، في عملية ظاهرها دستوري، لكنها انطوت على تهديدات طالت اكثر من طرف لتغطية هذا الانقلاب على اتفاق الدوحة، وعلى اصول العملية الديمقراطية. تلك التي كان حزب الله، بسلاحه ونفوذه العسكري، قادرا على ان يديرها بحرفة عالية، لكن لم تكف لاخفاء ارتكابه السياسي، بالاستقواء بسلاحه.
خمس سنوات مرت على غياب الحريري الطوعي، او تغييبه الضمني عن لبنان. لكن ذلك لا يعني ان تياره السياسي كان غائبا او مغيبا، بل اثبتت الوقائع السياسية ان تيار المستقبل، رغم العثرات التي واجهت مسيرته في السنوات الاخيرة، بقي التيار السياسي الاقوى على الساحة اللبنانية والاكثر تمددا في البيئات اللبنانية المتنوعة. هو الاقوى لبنانياً، لكونه تيارا سياسيا مدنيا لا يتوسل السلاح لتعزيز نفوذه كما هو حال حزب الله... ولا الوقوع في اغواء الصراع المذهبي. ولعل وسطيته واعتداله السياسي جعلاه لقمة سائغة لحظة جموح السلاح، لكنهما شكلا له حصانة لبنانية جعلت من تيار المستقبل طرفا لا غنى عنه حين التفكير في اعادة ترميم الدولة واستنهاض الوحدة الوطنية في مقابل اكتساح المشاريع الاقليمية ومغامراتها المنطقة.
عودة سعد الحريري الى لبنان جاءت لتلبي مطلبا لبنانيا، وليس حزبيا. ذلك ان الخيار الذي اخرج الحريري من رئاسة الحكومة ومن لبنان، بدا انه عاجز عن تقديم البديل القابل للحياة. السنوات الماضية كشفت، بما لا يدع مجالاً للشك، ان حزب الله لا يمتلك سوى خيار الحرب واستمرارها سواء باسم المقاومة او الحرب في سورية، او القتال في العراق واليمن. وهي المهنة الوحيدة التي يتقنها. اما وظيفة بناء الدول ورسم سياسات اقتصادية وتنموية، والانخراط في مشروع دولة ذات سيادة، فهي مهمات من طبيعة مختلفة عنه، قبل ان نجزم إذا كان يطمح الى بناء دولة او لا يريد. لكن للمراقب ان يلاحظ كيف ان نظام مصالح حزب الله هو نظام مصالح اقليمي بالدرجة الاولى والثانية والثالثة... اما نظام مصالحه الوطني فبقي هامشيا منذ نشأة حزب الله حتى اليوم.
هنا المقارنة مع حزب الله لا تنطلق من تقييم اخلاقي او وجداني او ايديولوجي، بل من خلال المعطى السياسي والوطني. اذ يمكن ملاحظة ان هناك علاقة جدلية بين حزب الله ودولة لبنان. فكلما زادت قوة حزب الله ونفوذه، ترافق ذلك مع ضعف الدولة اللبنانية أكثر، وان كشف ذلك عن شيء فهو يكشف عن انه كلما تعاظم نظام مصالح حزب الله الخاص ودوره، برز هذا التناقض واتسعت الهوة بين وجوده ووجود الدولة بمعناها الحقيقي والفعلي.
سعد الحريري، في عودته الى لبنان ومن خلال خطابه في ذكرى 14 شباط، كان بعيدا عن التجييش، لم يظهر على انه زعيم طائفي، مهجوس بمخاطبة الغرائز والعواطف، ولم يظهر ايّ ميل للقول ان ما يجري في سورية او المنطقة هو ما يقرر مصير لبنان. بل ذهب الى استعراض نظام المصالح الوطني اللبناني، ومن خلال تثبيت هذا النظام حدد مواقفه ووجه رسائله الى العقل والى وجدان الوحدة الوطنية اللبنانية. قال ببساطة انه يريد رئيس جمهورية وانه ملتزم بالمعايير الديمقراطية وبما اختارته البطريركية المارونية. وهو ذهب الى تأييد احد مرشحي خصومه. كل ذلك بهدف عودة دورة المؤسسات الدستورية وانتخاب رئيس للبلاد. ووضع مقارنة بسيطة وعميقة في هذا الصدد، إذ قال ان الطرف الآخر ليس مهتما، بعد 21 شهرا على الفراغ الرئاسي، بملء هذا الفراغ، ويمكن ان يبقى سنة او سنتين من دون رئيس، فيما اوضاع البلد على كل المستويات تشهد تراجعا وانهيارا منذ نهاية عهد الرئيس السابق ميشال سليمان.
الأبرز أن الحريري بدا "جامعا". جمع أشرف ريفي وسمير جعجع وخالد الضاهر. قبّلهم وحضنهم واحتضنهم. لا أحد غيره يجمع سليمان فرنجية وجعجع وريفي والضاهر في حضن واحد.
سعد الحريري حضن... وهذا ما تأكدنا منه في 14 شباط.