إبّان مراهقتي، ومراهقة كثيرين من أبناء جيلي، كان تعبير "أعجوبة لبنانيّة" (وأحياناً "معجزة لبنانيّة) يثير خليطاً من الاستياء والسخرية.


ما هذه الأعجوبة، كنّا نقول، مطالبين بوصف واقعيّ للبنان وأحواله. وكنّا إذا وجدنا أنفسنا مضطرّين لمناقشة هذا التعبير الذي لا يستحقّ النقاش، ننساق إلى تبيان تناقضاته الداخليّة:


فجعلُ لبنان، على لسان الأخوين الرحباني، "قطعة سما"، يُغيّب أنّه وطن وأرض وعلاقات فيها مستغِلّ ومستَغَلّ. والقول، على لسان بيار الجميّل، إنّ قوّة لبنان في ضعفه، يعاند كلّ منطق بسيط وشكليّ، إذ كيف تكون القوّة في الضعف.

 

أمّا هذه الالتواءات في العقل فإن هي إلاّ مقدّمات وتبريرات لرعاية التواء عميق في الواقع، وهنا ليس هناك أفضل من ميشال شيحا للتمثيل به على كذب تلك البراءة: فهو عمّم الأسطورة ورفعها إلى مثال من أجل أن يقنعنا بنظام الاستغلال والنهب، حيث قطاع الخدمات المتضخّم يطيح الاقتصاد المنتج صناعةً وزراعة.


صحيح أنّ "الإيديولوجيا اللبنانيّة" لم تبرأ من زيف يحفّ بكلّ إيديولوجيا، وهي كانت، إلى حدّ بعيد، ريفيّة وأبرشيّة تنهل من رومنطيقيّة جبليّة وبسيطة. إلاّ أنّ "الشعريّ" في هذه الإيديولوجيا كان لا يُذكر قياساً بـ"الشعريّ" الذي دعانا إليه نقّاد تلك الإيديولوجيا، بشعر أقلّ ومخيّلة أضعف. فالمطلوب، هنا، وبحجّة الانشداد إلى الواقع، أن ننحاز إلى برنامج قوامه بناء اقتصاد منتج قد لا يكفيه لبنان قاعدةً مادّيّة، وعندها تغدو الوحدة العربيّة فرض عين. أمّا وجهه الآخر الملازم فالانخراط في تحرير فلسطين.


فإذا كانت الأولى "أعجوبة" تسمح بالتلهّي بها والسخرية منها، على ما كنّا نفعل، فالثانية طريق إلى الخوارق معبّد بالدم والجماجم، إلاّ أنّه مقدّس يرقى التشكيك به إلى خيانة.


والحال أنّه وجدت دائماً فوارق ساطعة بين شعريّة "الأعجوبة" اللبنانيّة وشعريّة نقّادها "الواقعيّين". فالأولى كان كذبها مهجوساً بتفادي العنف، ولو على نحو طوباويّ، فيما بدا كذب الثانية ملحميّاً من حيث إلحاحه على العنف أينما وُجد، وعلى معارك المصير أينما حلّت. وكان طلب الحرّيّة أساسيّاً في الأولى، "حيث لا معنى للبنان من دون الحرّيّة"، بينما لا يحضر طلب الحرّيّة بتاتاً في الثانية، بحيث أنّ نقّاد "الإيديولوجيا اللبنانيّة" لم يروا غضاضة في الاستعانة بأنظمة عسكريّة وأمنيّة عربيّة وأوروبيّة شرقيّة (ومؤخّراً بإيران) للقضاء على التركيبة اللبنانيّة، أو في الحدّ الأدنى إضعافها وإخضاعها.


وأسوأ ممّا عداه أنّ الفقر والإفقار والاستغلال ممّا حفّ بزمن "الأعجوبة" اللبنانيّة، وقيل إنّ وظيفة هذه "الأعجوبة" ستره وتبريره، هو ما لا يُذكر قياساً بما أنتجته أوضاع "الانخراط في الواقع".


وأمّا وأنّ الانخراط هذا صار يعني اليوم حرب الجميع على الجميع، فهذا شهادة أخرى للتفوّق النسبيّ الذي عبّرت عنه "أعجوبة" لم يتعب واصفوها من وصفها بـ"الانعزاليّة".

 

المصدر: ناو