جورج عبيد «كان إنسان مرسل من الله اسمه يوحنّا» (يو1: 6 )
بين عائلتي وعائلة السيّد البطريرك يوحنّا العاشر اليازجيّ وشائج قربى منسوجة بمحبّة كبرى، خطّها التاريخ في ربى وادي النصارى، في مجاورة دير القديس جاورجيوس الحميراء. كان هذا الوادي مسرحًا لتنافس سياسيّ كبير، لكن المحبّة ظلت أقوى من التاريخ، حتّى تقاربنا، وأصبحت بين العائلتين مصاهرة طيبة بزواج تمّ بين المغفور لهما الدكتور الياس عبيد الطبيب والشاعر والنائب في البرلمان السوريّ إبّان الحكم الوطنيّ، ورضى اليازجي ابنة الشيخ إسكندر اليازجي.
عرف اليازجيون بعمق ثقافتهم واتساعها نحو آفاق معرفيّة واسعة. وفي تاريخ النهضة العربيّة، كان منهم الشيخ إبراهيم والشيخ ناصيف اليازجي، اللذان ساهما في انبلاج عروبة صافية صادقة مع نفسها بدءاً من اللغة إلى الحياة والرؤى القوميّة. والتمست على المستوى الشخصيّ لطف ودماثة الدكتور كمال اليازجي، الذي تتلمذ على يده كثيرون من كبارنا في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وهو الذي كتب عن القديس يوحنّا الدمشقيّ قارئًا فكره ما بين المسيحيّة والإسلام. كما التمست صداقة كثيرين منهم. فنحن جذراً نجيء من مدى واحد حمل لواء العروبة والوطنيّة الصادقة، كما حملنا إيماننا وترجمناه هنا، في هذه البوادي المشرقيّة وفي دنيا الاغتراب، لأننا ذقنا أنّ الله منشئ الفكر والجمال والعلم.
لكنّ القربى مع يوحنّا اليازجي، الذي عرفته منذ التسعينيات، وتحديدًا سنة 1993 وكان أرشمندريتاً، لها نكهة خاصّة ومميّزة. فهو وإن احتجب خلف ترهبنه، لكنّه رجل كلمة وموقف، يقولها بهدوء وصفاء، ومن دون انفعالات تذكر. عاصرته في القلب والفكر، والتقينا في حقبة أسقفيّته غير مرّة، ورأيته يثب من نهضة إلى أخرى، وبخاصّة من معهد القديس يوحنّا الدمشقيّ، ورئاسته للدير فيه، إلى دير القديس جاورجيوس الحميراء، حتّى انتخبه المجمع المقدّس متروبوليتاً على أوروبا الغربيّة خلفًا للمثلّث الرحمات المطران غفرئيل الصليبي. وفي كلّ وثباته، كان يوحنّا اليازجي يعانق الضياء. فأنشأ في دير القديس جاورجيوس الحميراء، رهبنة أضاءت وادي النصارى بكلمات الإنجيل، وأسّس مدرسة للإعداد اللاهوتيّ، فأعاد الروح إلى موقعها الطبيعيّ، وكان يخطّط لما هو أبعد في هذا الموقع، أي أن يكون ملتقى لأهل المعرفة والفكر يرودنه، فيتعانق الفكر والإيمان في محبّة الله. والرؤية النهضويّة عينها سكبها في معهد القديس يوحنّا الدمشقيّ في البلمند، فسعى إلى جذب الطاقات للتلاقي مع طلاّب اللاهوت، حتّى تتوسّع آفاقهم المعرفيّة، ويدركوا بأنّ اللاهوت ليس حالة نظريّة، بل هو تجسيد لمحبّة يسوع الناصريّ، والتجسيد لا يتقوقع في ذاته، بل يتجلّى في التلاقي الموضوعيّ مع كلّ سياق معرفيّ، يدور في الحياة ويبلورها في اتجاهاتها الصحيحة، وفي اللقاء الموضوعيّ والعريق مع كلّ آخر.
وحين انتخبه المجمع المقدّس متروبوليتًا على أوروبا الغربيّة، نقل بوداعة طيبة حضورنا المشرقيّ إلى المغتربين ما بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا وسويسرا... فهو في تلك البلاد كرز بالمسيح يسوع بلغة الأرض التي ولد فيها وشعّ منها، وأعاد الاعتبار إلى دور المغتربين في الشهادة لكنيستهم في عالم متشدّد بعلمانيّته. وبدأ بتشييد الكنائس وسيامة كهنة ومن ثمّ استعان بأساقفة من الوطن لمعاونته على رعاية الأرثوذكسيين في تلك الديار، وجعلهم مولودين من الإنجيل في ذلك العالم الواسع.
عرف يوحنّا اليازجيّ بمواجهته الصعاب. والمواجهة كانت تتمّ بهدوء فكره، متسلّحًا بالكتاب العزيز، ومتأصّلاً بتراثه العريق. لكنّ المواجهة مع ارتقائه سدّة البطريركيّة لها أبعادها وتجلياتها، في ظلّ العاصفة الوجوديّة التي تجتاح سوريّا والبلاد العربيّة، ومع تراكم الأسئلة الكبرى عن مصير المسيحيين العرب. وقد عبّر ببساطة أن المسيحيين باقون في سوريّا ولبنان، والمقرّ البطريركيّ باق في دمشق، وهذا الأمر غير خاضع للنقاش. وفي الكاتدرائيّة المريميّة في دمشق، لفظ خطبة عبّر فيها عن تمسّك المسيحيين بالأرض والتلاقي التاريخيّ بين المسيحيين والمسلمين. 
ما يجدر قوله، أنّ فكر البطريرك يوحنّا العاشر غير منفصل عن تراث اليازجيين الكبار، في تأسيسهم لعروبة واضحة قائمة على الانبعاث النهضويّ. لكن غبطته جذب هذا التراث نحو بلاغة الروح بامتزاجها مع تراب المشرق، أي أنطاكيا القديمة-الجديدة. ذلك أنّ العروبة هي الهويّة، والهويّة حافز للبقاء والاستمرار في الحياة. لكنّ العروبة في قراءة أرثوذكسيّة ومسيحيّة لا معنى لها إذا خلت من المكوّن المسيحيّ في ظلّ العاصفة الوجوديّة التي تضرب سوريّا والعراق أكبر دليل على ذلك. لكنّ البطريرك يوحنّا العاشر اليازجيّ، يعي أنّ المسألة الجوهريّة لا تعني فقط بقاء سوريّا أو لبنان فحسب، بل تعني أكثر فأكثر بقاء الكيانين سليمين ومتماسكين بشهادة المسيحيين وديمومة بقائهم. فإذا انكسفوا من هذه الديار المشرقيّة فماذا يبقى عند المسلمين من وجود حرّ، وماذا يبقى من ثقافتهم المضيئة، التي ساهم كبار المسيحيين بكشف دررها وإبراز سطوعها للعالم كلّه من خلال النقل والترجمة والتعاون المستمرّ بمجالات كافّة ومتعدّدة؟ 
إنّ البطريرك يوحنّا العاشر مدرك أنّ سوريا والمنطقة تعيش بكلّ ما للكلمة من معنى صدام أديان، وكان للمغفور له الرئيس شارل حلو أن يصف هذا الصراع في لبنان بأنّه صراع الأنبياء. وهو صراع من صناعة إسرائيليّة صهيونيّة بامتياز، وممهور بتوقيعهم. لا يمكن أن يطلب من البطريرك ما هو فوق طاقته. لكنّ عقله الواسع، يجعلنا نثق بأن قراءته ستبدأ بنقد ذاتيّ لواقع الكنيسة الأرثوذكسيّة، ودورها في مقاربة الحوار مع المسلمين في ظلّ تلك الظروف الدقيقة، وبخاصّة فيما العالم الإسلاميّ يعيش ارتجاجًا كبيرًا بين ليبراليّ ذاق الملاطفات العيسويّة وأحبّها، و«إحيائيّ» رأى الدين حرفة له، وغدا حروفيًّا، وهو يكفّر من هم من غير دينه، ويلفظ من عقله من هم خارج رؤيته. كما أنّ القراءة ستكون بنيويّة خاصّة بالعمل داخل الكنيسة، وبخاصّة في العلاقة بين الإكليريكيين وجماعة المؤمنين...
وحين زاره «اللقاء الأرثوذكسيّ» مهنّئًا، لفت نظرنا المطران بولس مطر، الذي كان حاضرًا، بأن كلمة «عوام»، التي يستعملها المطران جورج خضر، في السريانيّة هي «عامو»، أي الشعب. وقد أدرك غبطته أنّ الكنيسة هي الشعب أي جماعة المؤمنين. فمن هنا لا بدّ من صيغة متوازنة تجعل المؤمنين في شركة فاعلة مع الإكليريكيين، تعيد الاعتبار إلى الحضور الأرثوذكسيّ في المشرق العربيّ، انطلاقًا من الرؤية الجديدة التي نرجو انبلاجها عند صاحب الغبطة.

([) ناشط في «اللقاء الأرثوذكسي»