يشهد لبنان انهياراً كاملاً لأيّ مقاومة تُعيق تقدّم حزب الله إلى كل المواقع فيه. سعد الحريري في الخارج وهو لن يعود إلا بموافقة من الحزب. قوى "14 آذار" تقدّمت بمرشّحين لرئاسة الجمهورية كلاهما قريب من الحزب وبعيد كل البعد عن القوى التي تولّت ترشيحه. لا بل هي تقدّمت بترشيحهما لقناعتها بأن لا رئيس للجمهورية من خارج الدائرة التي تُرضي الحزب.


الأمن العام اللبناني يتولّى التوسّط في صفقة تبادل بين الحكومة التشيكية التي تُوقِف وسيطاً للحزب بطلب من الولايات المتحدة الأميركية، وبين خاطفي التشيكيين الخمسة، فيكشف (الأمن العام) عن وظيفةٍ له تتمثّل في إدارة ملفات الحزب الخارجية، وما يتعلّق منها بالمهام التي تحتاج علاقات ومفاوضات لا يمكن للحزب تولّيها نظراً لأنه حزب أولاً، ولأنه مُدرَج على لوائح عقوبات دولية ثانياً، ولأن الصفقة تقضي بأن لا يؤتى على ذكر دور للحزب في عملية اختطاف الرعايا التشيك. ذاك أن من خطفهم كان مجرد عصابة!


وفي هذا السياق يمكن مثلاً إدراج تصريح وزير الداخلية الأخير عن أن "عرسال بلدة محتلّة، لكن أهلها هم من يحررها"، وأن يتبنّى الوزير معادلة "عرسال محتلة"، فهو يلتزم بما دأب حزب الله على تكراره منذ أكثر من ثلاث سنوات. ويمكن طبعاً إدراج فضيحة خطف هنيبعل معمر القذافي في هذا السياق، ذاك أن السيارة التي عبرت فيه النقاط الحدودية الرسمية كانت سيارة "مقاومة" لا تخضع للتفتيش على النقاط الحدودية. 

أما واقعة الإفراج عن ميشال سماحة فيجب أن تُزيل أي شك عن حقيقة الهزيمة وعن وضوحها، وما الضجيج الذي أُثير حولها سوى صورة من حال النكران، لا بل اقتراب النكران من مستويات هذيانية سريرية غالباً ما يُصاب بها من يعجزون عن الإقرار بهزيمتهم.

الأمر لا يحتاج للكثير من الفطنة حتى يختبر اللبنانيون هذه الحقيقة، وعدم إعلان "14 آذار" استسلامها يُضاعف من حجم التراجيديا، ذاك أن لامتناع الجماعة عن الإقرار بالهزيمة وظيفة نفسية أكثر منها سياسية. إنّها نوع من النكران الذي نمارسه كل يوم حين نُذهل بواقعة تكشف حجم نفوذ حزب الله. 

هناك مرشحان قريبان من الحزب، لكن الأخير لا يريدهما لأنه أصلاً لا يريد رئيساً. يا لهول ما اكتشفنا. للذهول هنا وظيفة "نكرانية"، إذ إنّ ممارسيه يدفعون عبره عن أنفسهم مهمة الاعتراف بانتصار الحزب. ما جرى للرعايا التشيك أيضاً أذهلنا واستدرج أصواتاً مستهولة. الذهول يعني أننا نقول لأنفسنا إن ما جرى هو الاستثناء وإن القاعدة هو أن لبنان لا يشهد مثل هذه الأفعال عادةً، وأننا ما زلنا جزءاً من منظومة العلاقات الطبيعية بين الدول.

لا، لم نعد كذلك. علينا أولاً أن نعترف أمام أنفسنا بهذه الحقيقة، ولكي نعترف بذلك علينا أن نعلن هزيمتنا. يجب أن نكفّ عن الذهول، وأن تتحوّل الوقائع المذهلة إلى وقائع عادية. لا بل علينا أن نُذهل من تردد حزب الله من التقدّم أكثر، وأن نسأل أنفسنا عن أسباب إبقائه على بعض المقاهي التي تشهد تذمراً.

والحال أنّ لنكران الهزيمة وظيفة أخرى، سياسية هذه المرة، فعدم إعلان الإستسلام يؤمّن للقوى المهزومة مواقعاً ما زالت نُخَبها بحاجة إليها. فوزير "14 آذار" لن يبقى وزيراً إذا ما اعترفت هذه الجماعة بهزيمتها، وكذلك الرئيس والنائب والناشط. ثم إنّ حزب الله بدوره لا يريد من مناوئيه إعلان هزيمتهم، ذاك أنه ما زال يحتاج خصوماً يُسهّلون عليه تقدّمه إلى مزيد من الوقائع. فهم النصاب الوهمي لتوازن يدّعيه، ناهيك عن أنّ النصر يكفّ عن كونه فعلاً مستمراً إذا ما أعلن خصوم الحزب هزيمتهم. فهل تتخيلون حزب الله من دون انتصارات؟

  المصدر: ناو