«عصام! عصام! يا عصام». إنّها الأولى والنصف منتصف الليل، أحدُهم على الباب يقرع على عجَلة من أمره، وإذ بعصام يقترب ليفتحَ بلا تردّد، على اعتبار: «لو ما بيَعرفني كيف عيَّطلي». لم يكد يفتح حتى فوجئ بشخصين أمام بابه أحدُهما شاهرٌ في وجهه السلاح والآخر يطلب منه إفساحَ المجال: «نِحنا مِن أمن الدولة بَدنا نفَتّش بيتك»... دقائق ويجد عصام نفسَه مكبّلاً في الحمّام! جابي ضرائب، بائع زيت، مُكافح للمبيدات... تتعدَّد الأدوار التي تؤدّيها عصابات مُنتحِلي الصفة وتتنوَّع سيناريوهات احتيالهم، حتى إنّهم لا يتردّدون في أخذِ دور المتسَوّل، موقِعين بأكبر عدد من ضحاياهم.

ولكنْ يبقى انتحالُ العصابات لصِفة أمنية مِن الأخطر على أمن المواطنين العُزَّل. وما تعرَّض له عصام غيضٌ مِن فيض شراسةِ تلك العصابات التي غالباً ما تتحرَّك ضمن مجموعة مكوَّنة من 3 أشخاص، الأوّل يَشهر السلاح، الثاني يتحدّث بثقة إقناعية، وثالث لا يَظهر بدايةً لأنّه المراقِب فيقف بعيداً بضعة أمتار مراقِباً.

على رغم الهَلع الذي راوَد عصام لحظة رؤيتِه المسدّس مصوَّباً في اتّجاهه، عاد والتقط أنفاسَه بعدما سمعَ أنّ الشابَّين من أمن الدولة، نظراً إلى أنْ ليس بحقّه أيّ مذكّرة توقيف أو أفعال جرمية، «فتمتمَ، أهلاً بالشباب بَس يمكن مستشبهين بالإسم».

خطوات معدودة واقتحَم منتحِلا الصفة الأمنية حرمة المنزل، ولكي لا يُبديَ عصام أيّ ممانعة، احتجزاه مكبَّلاً بدايةً في غرفته، فسرَقوا منه مبلغاً من المال بقيمة ألف دولار أميركي وثمانين ألف ليرة لبنانية، بالإضافة إلى جوازَي سفر وثلاثة هواتف خلوية وغيرها من القطع الإلكترونية.

وبعدما تبيَّن لهما أنّ «حمل الغلّة» يحتاج لمسانِد، نَقلا عصام إلى الحمّام، وناديا شريكاً ثالثاً معهما فساعدهما. لم يغِب عن بال الثلاثة إغلاق الباب خلفَهم ومغادرة المكان وكأنّ شيئاً لم يكن بعدما سرقوا أيضاً مفتاحَ سيارة عصام نوع «سوزوكي».

معاناة عصام لم تنتهِ عند هذا الحدّ، والمفاجأة الكبرى كانت بعد ظهر اليوم التالي على إثر ورود اتّصال من شخص رفَض الكشفَ عن اسمه مكتفياً بالإشارة إلى أنّه يملك محلّاً في طرابلس وأنّ مجموعة شباب اشتروا منه أغراضاً، وترَكوا عنده سيارة «سوزوكي» أمانة بحجّة إحضار الأموال.

للوهلة الاولى لمعَت عينا عصام ظنّاً منه أنّه عثرَ على سيارته، لكنّ فرحتَه لم تكتمل إذ صُعق بصاحب المحل يطلب منه مبلغاً بقيمة ألفين و700 دولار أميركي مقابل استرجاع السيارة. لم يتجاوَب عصام في دفعِ المال خشيةً من أيّ عملية لاستدراجه بعدما ضاق ذرعاً بالعصابة.

كيف تعمل العصابات؟

أخطر ما في أعمال انتحال الصفة، أنّها غالباً ما تكون مقرونةً بأعمال جرمية أخرى، مثل السرقة، القتل نتيجة مقاومة الضحية، وتجارة المخدّرات... في هذا السياق، يوضح مصدر أمني لـ«الجمهورية» أنّ عصابات منتحِلي الصفة «بغالبيتهم شباب في العشرينيات، من أصحاب السوابق ومدمِني مخدّرات، يبحثون عن المال السريع، لذا يفكّرون في أسرع طريقة تُلزم ضحاياهم الاستسلام، فيدّعون أنّهم مِن فرع المعلومات، المخابرات، أو أنّهم من رجال الأمن بصفة حزبية معيّنة».

ويؤكّد المصدر: «هذه الظاهرة قديمة جديدة تَبرز في مواسم وتهدأ في أخرى بحسب عمليات التوقيفات»، مشيراً إلى أنّه «ما مِن منطقة معفيّة، فلا حدود لجشَع العصابات، ولكنْ يُسجّل جبل لبنان عموماً النسبة الأكبر من ضروب الاحتيال، وإذا أردنا الدخولَ في التفاصيل، فلكلّ منطقة خصوصيتُها التي تحاول العصابات توظيفَها للوصول إلى مبتغاها.

على سبيل المثال في محيط الضاحية الصفةُ الأكثر انتحالاً هي رَجل انضباط أو رَجل أمن بصفة حزبية، أمّا في محيط المارينا فقد «ينقر» أحدُهم على نافذة متحابَّين بوضعٍ حَميميّ مدّعياً أنّه من أمن الدولة، فيَدخل معهم من نقطة ممنوع الوقوف هنا، إلى ابتزازهم، وفي بعض الحالات قد تتعرّض الفتاة لمحاولة تحَرّش، لذا يبقى سيناريو تلك العصابات مفتوحاً على احتمالات كثيرة».

تختلف الوقاحة التي تتَّصِف بها هذه العصابات، وتتفاوت بحسب الدافع الذي يُحرّكها ومدى حاجتها للمال. ففي وقتٍ قرَعت عصابةٌ بابَ عصام، آثرَت عصابة أخرى مكوَّنة من ثلاثة شبّان التنقّلَ في سيارة «ب. أم 325» رصاصية «مفيَّمة» لتقَصّي ضحاياها.

وأوقفَت علي وهو «معلّم باطون» في محيط محطة الرحاب، مدّعيةً أنّها من أمن الدولة، فطلبَت أوراقه وما يَحمل في جيبه، فسَلّمها أغراضَه من مال وهاتف خلوي، بعدها أعادت له هويته واستولت على أمواله وهاتفه وغادرت. وفي التحقيقات لاحقاً تبيّنَ أنّ اللوحة مزوّرة وتعود لسيارة «مرسيدس».

الفئات الأكثر استهدافاً

في سياق متّصل، يؤكّد المصدر الأمني «أنّ الضحايا هم غالباً من العمّال الأجانب الذين تستغلّ العصابات الاستفسارَ عن أوراقهم القانونية وظروف إقامتهم لابتزازهم مادّياً، كذلك المسِنّون العُزَّل الذين يفضّلون الاحتفاظ بأموالهم معهم وليس في المصرف، والأفراد الذين يقطنون بمفردهم».

ويتابع: «لذا لا يكتفي منتحِلو الصفة بتنفيذ عملية واحدة، إنّما يتقصّدون توسيعَ «غلّتهم» عبر حصدِ أكبر عدد ممكن من الضحايا في الليلة ذاتها وفي الشارع عينه، قبل أن يختفوا كلّياً عن المنطقة لإبعاد الشبهات عنهم». ويَلفت المصدر إلى أنّ «ورَش العمار والأبنية قيد الإنشاء، تُشكّل المجال الأحبّ لأفراد هذه العصابات الذين يحاولون إيهامَ العمّال بأنّهم دوريّة فيَسرقون منهم ما يملكون «حتى لو ألف ليرة»، يتموّلون بكلّ ما تطاوله أيديهم».

قرعُ الباب، التجوُّل بسيارة،... لا توفّر العصابات وسيلةً إلّا وتستخدمها، حتى إنّ للتنزّه وللدرّاجة النارية حصّةً. وما حصَل مع طارق بينما كان عائداً إلى منزله، أشبَه بفيلم هوليوودي، إذ استوقفه أحدُ الشباب في ثياب مدنية مدّعياً أنّه من فرع المعلومات، طالباً منه إبرازَ أوراقه. ولم يكد طارق يُخرج محفظته من جيبه حتى مرَّ شخص آخَر على درّاجة نارية ونشَلها من يده وأخَذ منها المال قبل أن يرميَها أرضاً، وسرعانَ ما غادر الشخصان معاً.

كيف يمكن كشفُهم؟

وسط التمادي الذي قد يدفع المواطنون ثمنَه، يلفت المصدر إلى جملة مؤشّرات يمكن الارتكاز عليها لكشفِ أمر منتحِلي صفة معيّنة، قائلاً: «أوّلاً غالباً ما يرتدي عناصرُنا، من شرطة قضائية، ومعلومات، سترةً خاصة بهم، فيمكن اعتمادها دليلاً حسّياً، وفي أسوأ الأحوال من حق المواطن أن يسأل عن كامل هوية الشخص الذي يستوقفه من دون الارتباك طالما إنّه غيرُ مخطئ».

ويضيف: «يجب الانتباه إلى التوقيت والمكان الذي يتمّ فيه الاستفسار عن الأوراق، أو طلب دفع فاتورةٍ ما. فلا يمكن مثلاً لجابي الضرائب أن يحضر منتصفَ الشهر بعد أن يكون زميلٌ له قد حضر في أوّله، لذا فإنّ ترَصُّد بعض التفاصيل قد يثير الشبهات ويَعكس جملة مؤشرات لا يمكن الاستخفاف بها».

السجن لهم بالمرصاد

وفيما يأسف المصدر الأمني لأنّ 99 في المئة من منتحلي الصفة من حمَلة الجنسية اللبنانية، يؤكّد أنّ القانون واضح، وهو لهم في المرصاد، مستنداً إلى المادة 391 من قانون العقوبات، معدّلة وفقاً للقانون 239 (1993)، «مَن أقدمَ علانيةً ودونَ حقّ على ارتداء زيّ رسمي أو حملِ وسام أو شارة من أزياء أو أوسمة أو شارات الدولة اللبنانية أو دولة أجنبية أو ارتدى ثوباً تخصّ به الشريعة اللبنانية فئةً من الناس عُوقبَ بالحبس ستة أشهر على الأكثر أو بغرامة لا تزيد على مئتي ألف ليرة».

وتتناوَل المادة 392 «مَن بدا منتحلاً وظيفة عامّة عسكرية أو مدنية أو مارسَ صلاحياتها عُوقبَ بالحبس من شهرين إلى سنتين»، «وإذا كان الفاعل مرتدياً في أثناء العمل زيّاً أو شارة خاصّين بالموظفين فلا ينقص الحبس عن أربعة أشهر. وإذا اقترَن الفعل بجريمة أخرى رُفعت عقوبتها وفاقاً لأحكام المادة 257».

لا شكّ في أنّ الملاحقات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية والتوقيفات المتواصلة تُساهم إلى حدّ كبير في لجم حركة المتطاولين والمستغلّين لهيبة الدولة، ولكنْ يبقى المواطن شريكاً أساسياً في تحَمُّل المسؤولية عبر التبليغ على الخط الساخن 112، وتقديم شكوى إلى أقرب مخفر ممكن، بهدف مساعدة الأمنيّين في تحديد ملامح أفراد العصابات لتَرصّدِها وإلقاء القبض عليها.