«الخبز» و«الحرية» و«الكرامة».. تلك هي الأهداف التي اندلعت من أجلها الثورات العربية المعاصرة، منذ خمس سنوات. أما حاملوها، فكانوا، بداية، شباناً، اختلط بهم أبناء أجيال متقدمة، في تظاهرات عملاقة، كلها سلمية ومبتهجة، تعلو آمالها إلى فوق، حيث تتوقع بأن الآلهة، حتماً، هي إلى جانبها. حِمَم هذه الثورات البركانية أسقطت رؤساء من الماضي، وأبقت على أخرى، هي في طريقها إلى السقوط، ولو بعد حين. ولكن، الحِمَم الجبارة أفرزت، أيضاً، ديناميكيات نقيضة تماماً، جعلت المواطن «العادي» يضرب، ربما من غير وجه حق، كفّاً بكف، ويتحسّر على الأيام الخوالي لما قبل الثورات، أيام الديكتاتور الذي كان، على الأقل، «يضبط الأمن ويقيم الإستقرار». بعض هذه الديناميكيات قليل، وبعضها الآخر عظيم الشأن؛ بعضه شرس، مهلك، والآخر أقل ضراوة. ولكن جلّه كان كاشفا عن أعماق كانت نائمة، محجوبة، صامتة، فوضوية، جاءت الثورات لتنزع حجابها الغليظ. في ما يلي سنتناول أهم الديناميكيتَين اللتين انهار مستورهما بحِمَم الثورات: 

الأولى، هي ديناميكية الإرهاب الإسلامي الذي تعولم بسرعة البرق، أو المتعوْلم أصلاً، وجمع خصوم الأرض كلها ليتنافسوا على مغانم قد يجنوها جراء مشاركتهم في الحرب ضده، «الحرب ضد الإرهاب». الذين قادوا الثورة في بدايتها كانوا منحازين، بغالبيتهم العظمى، إلى الشعارات الحداثية: فمن أجل «الخبز» و»الحرية»... يريدون ديموقراطية ودولة قانون وإنتخابات ومؤسسات، وان الوسيلة الفضلى لتحقيق كل ذلك هو المزيد من الحشد للتظاهرات السلمية. ولكن بعد أشهر، وفي أماكن أخرى، بعد أسابيع، أزيحت هذه الفئة «الحداثية» عن المشهد، واحتلت مكانها ألوية سلفية جهادية، باتت هي التي تقرر وجهة الحدث، وتعتبر نفسها هي الثورة على «الأنظمة الكافرة». هؤلاء الجهاديون لم يكتفوا بازاحة الحداثيين الديموقراطيين، إنما تفوقوا، أيضاً، على أقرب المقربين إليهم، أي «الإخوان المسلمين»، الذين كانوا أقوى المرشحين لتولي السلطة بعد سقوط الديكتاتوريات. لكن «الإخوان»، إما انهم فشلوا فأُسقطوا عند أول صعود لهم، كما حصل في مصر، أو انهم صغروا، أو ضاعوا في بحر من المجموعات الجهادية، المتطرفة عنهم؛ وقد بدأ بعضها ضئيلا ثم نما كالنمل في محيط هذه المجموعات الجهادية المتفاوتة التطرف والإجرام، كما حصل في سوريا خصوصاً. فارتدى الصراع صيغة واحدة، تختلف أشكالها قليلاً من بلد إلى آخر، وآيتها طرفان: العسكر أو الجيش النظامي، المحلي أو الإقليمي، والميليشيات الإسلامية المتطرفة الخاضعة لأوامر واحد من قادتها، هذا طرف؛ فيما الطرف الثاني هم الجهاديون باختلاف درجات تطرفهم، كلهم مسلحون مقاتلون. تتحرك بخجل على أطراف هذه الثنائية مجموعات مقاتلة أقل إسلاميةً، ولكن وزنها الضئيل يحيلها إلى مرتبة الملحق، أو المدعوم بقوة من أحد الأطراف الدوليين، أو اثنينهما، كما هي حالة «البيشمركة» الكردي. بحيث بتنا أمام قسمة غير عادلة، من فئة، هي التي اطلقت شرارة الثورات العربية، مسالمة، حداثية بأوجهها العديدة، معارِضة للنظام، أو اللانظام، الذي رسا بعد خمس سنوات من مأثرتها الثورية، ولكنها الآن خارج الميدان؛ وفئة أخرى نقيضة الأوصاف، تحتل الميدان بسلاحها وأيديولوجيتها المعادية للديموقراطية، تكفيرية بما يشبه السليقة، ولكن مع العداء شديد حيناً، أو الولاء الأشدّ، لهذا النظام، أو اللانظام. فيما «النقاش الفكري»، أصبح يدور حول ما إذا كان الجهاديون الإرهابيون، أو الميليشات الإرهابية، يعتنقون الإسلام الحقيقي، إذا كان أفرادهم مسلمين حقيقيين. فسادت موجة تكفير التكفيريين، واتجه نقاش الدين نحو المزيد من الأصولية. 

الديناميكية الثانية على علاقة بالأولى، أقوى منها، مع انها قليلة الكلام. انها ديناميكية نسف الحدود الوطنية التي نشأت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. الثورات العربية لم تقم من أجل هذه الغاية، أي الغاء الحدود الوطنية. بالعكس، كان صدى الوطن في كل قطر عربي حاضرا بغزارة؛ ليس بالأغاني والرموز والشعارات وحسب، إنما أيضا في التصوّر الثوري، الذي لم يكن بحاجة إلى الثرْثرة الوطنية ليرسم في المخيلة الثورية إطار المكان الذي تستطيع فيه هذه الثورة أن تنْبني. قبل الثورات، كانت هذه الحدود الوطنية شبه مغلقة على نظيراتها العربيات. أما بعد الثورات، فتحطمت تلك الحدود، وأصبحت مرتعا للجهاديين المعادين للأنظمة الإنتقالية، أو المنتهية، وللميليشيات المنضوية تحت مظلّة تلك الأنظمة. ليس من باب الصدف أن تكون أقوى ديناميكيتين إسلاميتَين، بعد الثورات، هي التي تكسر الحدود الوطنية، بل تعيد تشكيلها الديموغرافي على ضوء عقيدتها المذهبية: «حزب الله» حطّم حدود لبنان، وعبر بمسلحيه، ومن دون حساب، الحدود الوطنية اللبنانية نحو سوريا، تعبيرا عن عمق رؤيته لـ»الوطن»: الوطن هو حيث ابناء المذهب الواحد. هذا ما أهّله للمشاركة في عمليات التطهير العرقي في سوريا، عبر تطبيقه لهذه الرؤية الإيرانية لمعنى «الأوطان». «داعش» قام بالشيء نفسه، باحتفالية عالية، وبالكثير من المؤثرات المرئية، على الحدود السورية العراقية؛ هو أيضاً قام بالتطهير المذهبي والعرقي، ودمر حدود وطنَين، سوريا والعراق، ويهدّد حدود لبنان. «داعش»، المدفوع بمغالاته في المشهدية والإستعراض، كان أكثر وضوحاً من «حزب الله«، ربما بسبب بيئته «الحاضنة»، ولكن النتيجة في النهاية لا تختلف. الإثنان ضربا الحدود الوطنية في سوريا والعراق ولبنان، ونجحا في خلخلة شرعية هذه الحدود ونهائيتها، وإضفاء الطابع المذهبي على مأثرتهما. ومن متفرعات هذه الديناميكية، الحركة الكردية المتجولة بين تركيا وسوريا والعراق، وربما غداً إيران. قوامها عرْقي، دافعها تاريخي. هو الحلم الكردي القديم لإقامة وطن واحد، حرم منه الكرد بعدما قضم جيرانهم حصتهم من هذا «الوطن»، كلٌ بحسب درجة قوته. 

مثل إعصار بركاني، كانت تلك الثورات العربية. انكشفت أمامها هشاشة عمراننا وأخلاقنا وإنسانيتنا، وقدرتنا الخارقة على تعقيد حلولنا. والإعصار ما زال شغالا حتى الآن، وقد يفاجئنا بالمزيد من المستور، بالمزيد من الظواهر. فنحن ما زلنا عالقين وسط حِمَمه العاتية، الحارقة، وسوف نحتاج إلى سنوات من «التبريد» لعقلنا لكي نخلص إلى تجميع «بازل» كافة الديناميكيات التي رمتها هذه الحِمَم بوجهنا.