شكل النفط منذ  أوائل القرن العشرين ثورة على جميع المستويات وأصبح المصدر الأول والأهم من مصادر الطاقة في العالم. بعد الدراسات التي أجريت والإكتشافات تبين أن منطقة الشرق الأوسط وبالأخص المنطقة العربية  أغنى المناطق التي تحتوي على مخزونات هائلة من النفط وإحتياطاته (80 بالمئة من مخزونه) وكانت هذه الإكتشافات بمثابة نقلة نوعية للمنطقة فهي نعمة ونقمة في آن، فمنذ أن إكتشفت، أصبحت منطقة الشرق الأوسط محورية في إستراتيجية الغرب وتكفل بجعلها محمية تحت مظلته.

ورث النفط تاريخ وإرث طويل لمصادر طبيعية أخرى كالفحم والذهب كانت تؤثر على العلاقات بين الدول ودورات الإنتاج والإقتصاد، فالنظرة للحياة منذ بدء الخليقة إلى يومنا والتي" لم تطلها نظرية التطور" وبقيت ثابتة تقوم على مبدأ السيطرة. فمن يسيطر على منابع مصادر الطاقة وممرات النقل للطاقة يسيطر على العالم وخصوصا إذا ما كان هذا المصدر إستراتيجي ومصيري ووجودي كالنفط الذي يدخل في تفاصيل الحياة الإنسانية وأصبح دخيل في دورات الإنتاج جميعها من أولها إلى آخرها ويتوقف على أي خلل في إمداداته إضطرابات داخلية وحروب.

لذلك أصبح تقلب الأسعار لبرميل النفط يؤثر سلبا أو إيجابا على سياسة الدول وإتخاذها القرارات فضلا على أن الناتج القومي  للعديد من دول العالم الغنية بالنفط قائم على مبيعات وأسعار النفط في السوق. فالنفط إنتقل من سلعة إنتاجية إلى مستوى قرار إستراتيجي يتوقف عليه مصير الحكام والدول وأصبح الصوت المرجح في ميزان القوى في الشرق الأوسط والعالم. نعم ظهرت في آخر عقدين  مصادر بديلة للطاقة عن النفط تتميز بالنظافة والوفرة والتجدد كالشمس والهواء والمياه إلا أنها لم تصل إلى مستوى جدي وفعال للتنافس مع مكانة النفط العالمية. أجزم أن لهذه المصادر مستقبل لكن في وقتنا الحالي هي في المركز الثاني بعد النفط.

إستطاع النفط المحافظة على مكانته العالمية وإستطاع الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية تسخير بلدان مصادر الطاقة الأساسية إلى جانبها فأقامت حلف إستراتيجي مع معظم تلك البلدان كدول الخليج العربي على أساس معادلات قوامها توفير الأمن والحماية والتنمية لتلك البلدان مقابل الحصول والتحكم بينابيع النفط والمحافظة على خطوط نقل وعبور آمنة له وكسب التأييد السياسي والإمتيازات الإقتصادية. فإزدهر الخليج وتحولت الصحارى إلى واحات ومدن تباهي مدن العالم.

كان يدرك حكام تلك الدول أهمية "الذهب الأسود" ومتانته في التأثير على العلاقات وتغيير السياسات فكان القرار الذي إتخذه الملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز بقطع النفط عن الغرب إبان الحرب الإسرائيلية العربية واضحا ومؤثرا ومؤلما للغرب. فهم الغرب الرسالة جيدا وأفهمها للملك فيصل الذي مات قتلا على يد إبن أخيه "المصاب عقليا" وكانت آخر محاولة من هذا النوع.

وضعت أميركا سياسات بعد هذه الحادثة تلائم مصالحها بحيث لا تتضرر ولا يواجهها قرار ثاني كقرار فيصل، من خلال حصولها على المزيد من الإمتيازات النفطية. كان بيد أميركا أوراق ضغط كثيرة تتحكم بها ضد دول النفط الشرق أوسطية كالديمقراطية ومحاربة الإرهاب وتصدير التكنولوجيا وسياسات التنمية والقمح وغيرها. أوراق كانت تستعملها لكبح أي محاولة جدية كمحاولة فيصل السابقة. فورقة الحرية والديمقراطية إستعملتها ضد العراق وأسقطت صدام حسين، والعراق يمتلك أكبر مخزونات وإحتياطات النفط في العالم، فإحتلال العراق أحد أهدافه النفط وليس هو الهدف الوحيد. 

ولكن ظل سلم أسعار النفط والبترول غير مسيطر عليه كليا فهو حكما خاضعا لسياسات السوق (العرض والطلب) التي كانت أداة الضغط الوحيدة للدول المصدرة للنفط. كان يرافق إرتفاع أسعار النفط نهوض ونمو إقتصادي وزيادات في برامج التسلح وصفقات تسلم الطائرات المدنية بالمئات( صفقات بالمليارات بين دول الخليج وفرنسا حول شراء طائرات Air Bus) يقابلها زيادة في أسعار المنتوجات والسلع التكنولوجية في الغرب لزيادة أسعار النفط وزيادة في الطلب على النفط العربي أدى إلى زيادة في الأسعار.

لجأت أميركا إلى البحث عن بدائل كالنفط الصخري المتوفر في أميركا  ولكن مع هذا لم تتخل عن نفط الخليج لإعتبارات عدة منها إرتفاع تكلفة النفط الصخري والتلوث الذي يسببه النفط الصخري وسياسة تخفيض الأسعار من قبل أوبك من خلال زيادة العرض. قابل زيادة الأسعار الخيالية سياسة من نوع آخر وهي سياسة تخفيض الأسعار من خلال زيادة العرض في السوق.

إستعملت هذه السياسة من قبل المملكة العربية السعودية ضد إيران للتأثير على الدعم المالي الإيراني لحلفائها والإقتصاد الإيراني.

فعلى الرغم من أن إيران دولة غنية بالنفط إلا أن سيف العقوبات كان يمنعها من تصدير نفطها بشكل طبيعي وأخذ حصتها المناسبة في السوق ، إلا أن ما تصدره إيران مناسب لأن يبقى إقتصادها شغال. ولكن مع إنخفاض الأسعار بدأ التدهور الإقتصادي الإيراني والتراجع الميداني لحلفاء إيران في بعض المناطق فكان أحد الأسباب لتسريع الإتفاق على الملف النووي الإيراني ورفع العقوبات.

مرة جديدة يلعب النفط دوره في التأثير والتعديل والتغيير. وهنا لا بد من الإشارة على أن أحد أسباب إنخفاض أسعار النفط في السنة الماضية يعود أيضا لتدخل داعش في السوق وضخها للنفط بأسعار رخيصة جدا وتعامل العديد من الدول المجاورة معها وشراء النفط  السوري منها.أيضا لمنافسة سعر النفط الصخري او ما بات يعرف بثورة النفط الصخري في أميركا والذي سيجعل أميركا الدولة المنتجة الأولى للنفط في العالم بحلول العام 2017 كما صرح الرئيس باراك أوباما فإنهيار الأسعار يعود أيضا لقرار أوبك للجم هذه الثورة الجديدة لأنها إذا نجحت يعني إنخفاض الطلب على نفط أوبك.لكن سياسة الأسعار المحروقة لا تخدم الجميع لأن السعودية  لا تستطيع أن تلعب لعبة التخفيض إلى ما لا نهاية فإقتصادها يعتمد عليه أيضا ولا تستطيع إيران تحمل هكذا خسائر إقتصادية التي جعلت تراجعها الميداني يفسح المجال لروسيا بأن تتدخل في الأزمة السورية.

وهنا إذا ما إستمرت سياسة تخفيض الأسعار، فالخاسرون على مستوى المنطقة كثر إضافة إلى روسيا والمستفيدون أميركا وأوروبا، قد يشفع للسعودية ودول الخليج صناديقها السيادية التي تعد بمئات المليارات لكنها لا تستطيع المبالغة في الإعتماد عليها كثيرا لأنها صناديق للأجيال المستقبلية. فسياسة التخفيض معادلة تكسب مرحليا ولكن إستراتيجيا تنذر بالخطر خصوصا أن السعودية دخلت حرب اليمن وهناك مجهود حربي يومي والمؤشرات الإقتصادية لعام 2015 أشارت إلى عجز لامس 100 مليار دولار بعد أن سجلت طفرات في النمو في أعوام إرتفاع أسعار النفط. وإيران كإقتصاد هش يستعد للإنتقال من إقتصاد الثورة و"الإكتفاء الذاتي" إلى إقتصاد دولة منفتح ومتحرر ومتصل بالإقتصاد العالمي لا تكفيه عشرات المليارات المفرجة عنها ضمن الإتفاق النووي لإعادة ضخ الروح فيه بل هو بحاجة إلى سياسات إقتصادية تتعاطى مع أدبيات الإستراتيجية والثبات والمتانة، فالرؤية الإيرانية لو تجاهلنا رؤية التيار الراديكالي فيها سنجدها منفتحة وطموحة تتعاطى مع البعد الإستراتيجي أما الراديكاليون فهم يريدون مكاسب آنية فقط لتمويل المجهود الحربي الذي تضرر من وراء سياسات تخفيض الأسعار.

ونحن أمام رؤيتين للمشهد الإيراني قد يحسم الجدل حولهما في الإنتخابات القريبة القادمة. أما روسيا فحال إقتصادها أصعب وبدأت الملفات تضغط عليها من أوكرانيا إلى سوريا وتكاليف العمليات باهظة إضافة إلى تضرر العلاقات مع تركيا بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية وشبه قطع للعلاقات الإقتصادية مع تركيا ما أدى إلى زيادة في أسعار بعض السلع داخلها. هي الأخرى تطمح أيضا لزيادة أسعار النفط ليدر عليها المال الوفير. أمام هذا المشهد، نحن أمام ثلاث دول نفطية بدأت تنهك جراء صراع طويل يشكل النفط أحد دعائم قوتها وثباتها فسياسة التخفيض وإن تفيد البعض وتضر البعض على مستوى زمني متوسط أو قصير إلا أنه يضر جميع  هذه الدول الثلاث على المستوى البعيد. أميركا مستفيدة لا يضرها تخفيض أسعار النفط فهي دولة مستهلكة للنفط( أكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم بنسبة 25 بالمئة ومعظمها من أوبك) والمستهلك يفيده الأسعار المنخفضة.

اليوم خريطة التحكم بالنفط في العالم تتوزع على نوعين من الشركات: الأولى: شركات تعرف بشركات الست الكبار وهي:( إكسون موبيل، شل، بي بي، شيفرون، كونوكو فيلبس، وتوتال) وهي شركات خاصة نتاج إندماج العديد من الشركات بين عامي 1998 و 2002 ونتج عنها أكبر شركات تجارية في العالم تمتلك لوحدها 5 بالمئة من الناتج الإحتياطي للنفط والغاز وحققت أرباح بين عامي 2004و 2007 تعادل  494.8 مليار دولار أميركي. أما الثانية: شركات محلية مملوكة من الدولة بمعظمها في الشرق الأوسط وأفريقيا كنيجيريا تستحوذ على 95 بالمئة من الناتج الإحتياطي للنفط والغاز.

شركات بميزانيات تعادل إقتصاديات دول، ولتنسيق العمل أكثر والتأثير بمخزونات السوق أسست أوبك عام 1960 من طرف السعودية وضمت في بدايتها  كل من إيران والعراق والكويت وفنزويلا واليوم تضم 12 دولة تنسق فيما بينها لكن ساد  ويسود أعضائها بعض التوتر في بعض الأحيان كحرب العراق والكويت للسيطرة على آبار النفط الكويتية وحرب العراق وإيران ومن أسبابها صراع حدودي على منطقة غنية بالنفط والتوتر الإيراني السعودي الذي نعيشه اليوم. وهنا لا نغفل عن ما تفعله بوكو حرام في نيجيريا الغنية بالنفط في محاولة لتكرار مشهد داعش التي سيطرت على نفط سوريا لتمويل عملياتها والتأثير بأسعار السوق.

فبوكو حرام بايعت داعش وورقة النفط النيجيرية إذا ما كسبتها هذه المنظمة الإرهابية سيعود فائدته الأولى على داعش وسيستطيع الإرهاب التحكم بأول منبع نفطي إستراتيجي في العالم وهو نيجيريا المنضوية في منظمة أوبك. وهذا يعني تهديد واضح للرؤية الأميركية للعالم. في 2016، لا يزال النفط يسود ولا يعلى عليه، ولا زال لعبة السياسيين المفضلة، من أجله وبه قامت الحروب في عالمنا، لعبة يجدها البعض قذرة ويراها الآخرون لعبة الكبار لمواجهة الكبار وتستحق المحاولة. بينما أكتب هذا المقال كانت الأخبار تنقل أن أسعار النفط تواصل الإنخفاض إلى ما دون 30 دولار للبرميل، وداعش تهاجم منصات النفط في ليبيا. فهل ترتفع الأسعار؟ لعبة يشترك فيها الجميع.

  بقلم: هلال رميتي.