صادفتُها في أزقّة ميناء طرابلس بشَعرها الفضّي النظيف. وعلى رغم طولها الفارع فقد التوى ظهرُها بحُكم العمر والعمل والجهد والهموم... التقطَت في يدها اليمنى عصاً طويلة، وعلى رأسِها أحكَمت ملقطاً حديدياً معقوفاً كانت مريم الجَمل قد ابتكرَته وثبَّتته على طرف عصاها لالتقاط ما تبَقّى على الأرض من أوانٍ حديدية رماها أصحاب العِلم والمعرفة.لحقتُ بها أراقب مسارَها، وقد علّقَت على كتفها كيساً من خَيش تُفرغ فيه ما التقطته صنّارتها. إقتربتُ منها في لحظة ظننتُ فيها أنّها تأخذ قسطاً من الراحة، لكنّها استرقت النظر إلى كاميرتي، وعندما تراجَعتُ خوفاً من اعتراضها، فوجئتُ من عدم تأفّفِها وعدم اكتراثها، فعلّقَت: "لا يهمّني إنْ صوّرتِني، فأنا لا أخجَل بما أفعله، أنا المقطوعة من شجرة والمريضة والبالغة الثمانين من العمر أكسبُ عيشي بعملي وأفخَر بهذا العمل، وأنا أواظب عليه منذ أكثر من عشر سنوات، في وقتٍ يَغرق المتعلّمون والسياسيون في نفاياتهم ولا يدركون حتى الساعة طريقة الاستفادة منها".  

كلامُها زادني شوقاً للاستماع إلى قصّتها، هي السيّدة الجليلة إبنة الـ 80 عاماً تعطي درساً بيئياً للعارفين من أهل البلد وللنافذين الذين تعلّموا في الخارج... فهل من يصَدّق!   مريم الجَمل     نشأَت مريم الجَمل وترعرعَت في ميناء طرابلس. تذكُر ماضيَها بأسى، متحسّرةً على والديها اللذين توفّيا باكراً، لتبقى وحيدةً مفتقدةً إلى عائلةٍ تحتضنها، ولا سيّما أنّها تزوّجَت ولم تُنجِب. أما زوجها الذي عمل دهّاناً في المنطقة فقد اكتفت معه بما رزقهما به الله، ولم يمدّا اليدَ لطلب المعونة أو المساعدة إلا أنه توفّي مبكراً، أي منذ 26 عاماً، ليتركَها وحيدةً تتخبّط في مصاعب الحياة.  

منزل أقلّ مِن متواضع     بدا التعَب واضحاً على محيّا مريم وهي تروي قصة حياتها من دون أن تتوقف عن العمل. طَلبتُ منها السماح لي بمرافقتها إلى منزلها، فلم تمانع، خصوصاً أنّني بالكاد كنتُ أسمع صوتها. ولمّا استفسرتُ عن الأمر أوضحَت أنّها مُصابة بمرض عضال أفقَدها الصوتَ بعدما خضعَت لعملية استئصال الحنجرة، حيث وضِعت لها آلة حديدية لتمكينِها من الكلام.   وفي طريقنا الى منزلها، لم تتوقّف مريم عن العمل، بل كانت تلتقط "عبوات" العصير الحديدية الفارغة وتضعها في كيس معلّق على رقبتِها، وغالباً ما كانت تستنِد بيدِها الثانية على الحائط لترتاح وتأخذ نفَساً عميقاً بسبب ضيقِ التنفّس الذي تعانيه جرّاء العملية الجراحية.   وصَلنا إلى بيتٍ ضيّق في أزقّة الميناء بعدما انعطفَت نحو دهليز لا يتجاوز عرضُه متراً، حيث صعدَت مريم على درج ضيّق ففوجئت بتمكنها من الأمر، لكنني تفهمت السبب بعد إدراكي أن الدهليز الضيق هو الطريق التي تسلكها منذ عشرين عاماً وأكثر... في أعلى الدرج بابٌ أخضر خشبي عتيق متشقّق بالكامل، وضعَت مريم على الارض قبالته شوالين من الأواني الحديدية التي تجمعها يومياً منذ 10 سنوات.

  أزالت الكيسَ المعلّق عن رقبتِها وفتحته أمامي لتريَني "قناني" العصير الحديدية المتنوّعة الأشكال والأحجام، لكنّها لم تدَعني أساعدها في إفراغهما في الكيس الكبير، معلّقةً: "لم ينتهِ العمل بعد، أدخلي إلى المنزل لترَي ماذا أفعل لاحقاً.   دخلَت البيت بصمت وخجلَت من تواضعِه... مقعدان في مساحة أقلّ مِن مترين، واحد للضيوف والآخر للنوم والعمل. جلسَت مريم على مقعد خشبي قديم افترشَته بغطاء أقدَم، وقد خبا لونُه واجْرَدَّ من كثرة الاستعمال. أمّا الأدوات فقد أحضرَتها من رفّ ابتكرَته مقابل الأريكة التي تنام وتعمل عليها، فتناولت منه بلاطة رخام مربّعة عابقة اللون وشاكوشاً حديديّاً صدِئَ مع العمر والزمن.   مملكة مريم     تربّعَت مريم على عرشها وسط الأريكة والتقطت الشاكوش وبدأت بتفريغ حمولتِها من زجاجات "البيبسي" وغيرها، وبدأت تطرق عليها لتحجيمِها وتضغطها لتصغير حجمها قدرَ المستطاع، من ثمّ أعادتها إلى كيس الخيش الذي هيّأته ليحويَ أكبرَ عدد من الحمولة.  

ولدى إصراري عليها لتسردَ قصّة حياتها، توقّفَت مريم عن العمل وتنهّدت تنهيدة طويلة هامسةً بصوتٍ يكاد لا يَسمعه سوى صدى عُلبِها الفارغة: "عملتُ منذ عشرين عاماً في المنازل، وبَعدها انتقلتُ إلى المدارس، وتوقّفتُ عن العمل بسبب إصابتي بمرضٍ عضال في الحنجرة، فترأفَت بحالي المدرسة التي كنتُ أعمل فيها وأجروا لي عملية بعدما اختفى صوتي ووضعتُ جهازاً في حنجرتي لأتمكّن من الكلام والطعام".   عاجزة... عن مد يدي     تسترسل مريم في سرد الحكاية غيرَ آبهةٍ بعدم قدرتي على سماع صوتِها وحاولت جاهدة إعلاءَ نبرتها لأفهمَ ما تقول، وعندما عجزت استعانت بحركات يديها وبلغة الإشارات مع صوتها المبحوح: "عجزتُ عن مدّ يدي وأنا التي لم أطلب يوماً، بل كنتُ دائماً أعمل بكدّ لأجنيَ المال النظيف من عرق جبيني.   وبعد وفاة زوجي انتقلتُ إلى الشارع لألتقط "العبوات الفارغة" بعدما علمتُ بوجود "بورة" كبيرة قربَ مرفأ الميناء القريب من الشاطئ يَجمعون فيها «تنك» الحديد والمشروبات الغازية التي يَشترونها من البائعين الراغبين".  

وتسترسل في سرد الحكاية: "لفَتني منذ 15 عاماً صوتُ سائق عرَبة يأتي عند السادسة من صباح كلّ يوم وهو يجرّ عربةً خشبية تحمل صندوقاً، حيث يشتري من أهالي الحي كلّ ما تَيسَّر لديهم من أوانٍ حديدية بأثمان بخسة، وغالباً ما كان أهل الحارة يستفيقون على صوته وهو يصرخ عالياً "حديد للبيع... شُوَك... مَعَالق... تنَك كِلّ شي في عندك حديد للبيع".   وللمرّة الأولى تبتسم مريم وتعلّق: "أصبحَ نداء بائع الحديد أغنيةً يردّدها جميع أولاد الحي منذ أكثر من 15 عاماً". أما بطلة تحقيقنا فحين استفسرَت عن الأمر علمت بأنّ صاحب العربة يبيع كيلو الحديد بألف ليرة وبعدها ينقله إلى الشاطئ ليشتريه منه بعض التجّار من دون أن تعرف إلى أين يُرحّل.   وقد قرّرت مريم وفقَ روايتها تقليدَه إنّما على قدر إمكاناتها... فلم يكن في مقدورها شراء عرَبة خشبية تجرّها بجسدِها النحيل، خصوصاً إذا امتلأت بالحديد، لذلك فضّلت اعتماد رِجليها والاستفاقة قرابة السادسة والتجوّل يومياً على الأحياء معلِّقةً كيساً من الخيش على رقبتها تضَع فيه كلّ ما تصادفه عيناها من "تنك" مُلقى على جوانب الطرق... فنجحَت فعلاً وكانت كلّما جمعت كيساً كبيراً تذهب إلى "بورة" المرفأ وتبيع كيلو التنك بألف ليرة لبنانية... إلا أن الكيلو لا يُجمع بسهولة.   إبتسامة مِن مريم     بعدما تلمسَت نظرة التقدير في عينيّ، ابتسمَت مريم. وعندما سألتُها كم تجمعين يومياً؟ أجابت: "حسب، كِل يوم شِكل". وهنا حنت مريم رأسها تململاً شاكية التجّار في المرفأ الذين أصبحوا يأخذون منها الكيلو فقط بـ 250 ليرة لبنانية، أما انخفاض السعر كما تقول فمردّه أن الناس بعد أزمة النفايات أصبحوا يعلمون أهمّية تجميع العبوات، وربّما بدأوا يحتفظون بما يجمعون هم أيضاً من أجل الاستفادة".  

وحين سألتُها كم تَجني يوميّاً، ابتسمَت مضيفةً: "شهريّاً وليس يوميّاً، فأنا أجول يوميّاً للتجميع وأهيِّئ الغلّة حتى نهاية الشهر لأذهبَ وأبيعَها، وأحصل على ما يقارب 90 ألف ليرة شهريّاً، وهي تكفيني"... وتنحني تقبّل الأرض وتقول: الشكر لله "أكتفي بما يرزقني الله، كرامتي قبل الدني كلّها... لو بدّي موت مِش رَح مد إيدي".  

أصحاب الدكاكين والمقاهي ينتظرونها     أجملُ ما رأيتُ في جولتي، أنّ بعض أصحاب المقاهي والدكاكين الصغيرة استوقفوني وأرشدوني إلى حيث يحتفظون بزجاجات المشروبات الغازية الفارغة التي يخبّئونها يومياً لمريم، إذ أصبَحوا يَعلمون التوقيت الذي ستمرّ فيه السيدة ذات الشعر الفضي، فيتأهّبون ويتسابقون لإعطائها الأكياس.   المفاجأة     المحزن والمؤسف في قصّة مريم ما رواه لي جيرانُها أنّ لها ابناً بالتبنّي وجدَته منذ سنين طويلة ملقىً على أحد الأرصفة وعمرُه لا يتجاوز الأشهر، وقد اهتمّت به، لكنّه لم يَردّ الجميلَ، كان قاسيَ القلب وفق ما رووه، غالباً ما كان يأخذ الأموالَ التي تجمعها، وذات يوم غادر المنزلَ واختفى فجأةً منذ قرابة العشر سنوات، تاركاً إيّاها وحيدةً مِن دون أن تعرف خبَراً عنه حتى اليوم.

  لا أقتربُ من النفايات     مريم أحَبَّت أن تختم قصّتَها على طريقتها، فقالت لي: "أرجو أن تكتبي أنّني لا أقترب من النفايات أو "الزبالة". أنا أجمَع الأواني الحديدية فقط، وأشكر الله أنّ مؤسّسة كاريتاس تساعدني".   وقد بدأَت كاريتاس بمساعدتها بعدما صادفَتها شابّةٌ من المؤسسة على الطريق تلتقِط "التنك الحديدية"، فسارعَت إلى الاستعلام عنها وقدمت لها مساعدة رمزية عن طريق تقديم بعض الأدوية وبعض المواد الغذائية حين تتوافر.   وبدورنا ننشر قصّتَها وعلى حدّ قولها، "ربّما يتّعِظ الأغنياء ويجدون الحلول للنفايات التي لوثتهم"، في وقت عرفت هي كيف تعتاش منها... وتبقى نظيفة... وتكتفي.

lebanon 24