دخل لبنان مرحلة توجّه الإدارة الاميركية إلى تطبيق مبدأ الحرب الناعمة على "حزب الله" داخله. وليس معروفاً ما اذا كان البلد سيتحمّل نتائج هذه الحرب التي لا يزال الحزب يقاربها حتى الآن بردٍّ ناعم وبرغماتي، ولكنّ أمد استمراره في المواجهة الملتوية ضدها لا يتوقع أن يطول.ماذا يريد الاميركيون من هذه الحرب، وما هي الأوراق المتاحة لحزب الله كي يواجهها بها؟

كان مستغرباً أن يذهب "حزب الله" الشهر الماضي الى جلسة تشريع الضرورة في مجلس النواب ليساهم في تمرير وتشريع أحد أهم أسلحة الحرب الناعمة الاميركية ضده، وذلك على نحو يمنحها قوانين تطبيقية عملية في لبنان.

فالقانون الذي شرَّعه مجلس النواب بموافقة نواب "حزب الله" تحت مُسمّى مكافحة تبييض الاموال، يضمّ في متنه البند الأساس المطلوب إقراره أميركياً، وهو رفع السرية المصرفية في المصارف اللبنانية.

يُعطي هذا البند الأميركيين الفرصة لجعل المصارف اللبنانية في مواءمة كاملة مع متطلبات قانون فاتكا الاميركي الجاري تطبيقه حول العالم. ويُتيح قانون فاتكا لأميركا مقاضاة أيّ مصرف لبناني إذا ثبُت أنّه تجاوز في عملياته المالية شروط "المواءمة مع القوانين الاميركية" المرعية الإجراء في الولايات المتحدة الاميركية.

وأخيراً، صوَّت الكونغرس الاميركي بالإجماع على قانون أميركي يعتبر "حزب الله" منظمة إجرامية. وإثر ذلك طُرح سؤال عن سبب اختيار الكونغرس مصطلح منظمة "اجرامية" وليس "ارهابية".

وردّ خبراء قانون دولي حينها أنّ واشنطن اطلقت هذه الصفة لتسهّل عملية مطاردة أموال "حزب الله" داخل لبنان. فالحزب من وجهة نظر قانونية لبنانية هو حزب سياسي لبناني وله تمثيل في مجلس النواب.

وعليه، لا يمكن لأيّ مصرف لبناني أن يجمّد أموال محازبي الحزب او مناصريه تحت عنوان أنّهم ينتمون الى منظّمة إرهابيّة او يساهمون في جهدها المالي. لذلك ذهبت واشنطن لاعتباره منظمة اجرامية لكي تُلغي أيّ بعد سياسي او قانوني لبناني داخلي يعترض مطاردة أمواله في المصارف اللبنانية.

وبدلاً من ذلك أرادَ قانون الكونغرس حصر تعقب أموال الحزب داخل القطاع المصرفي اللبناني، ببُعده الجزائي من ناحية وببعد آخر يتعلق بأنّ المصارف اللبنانية بموجب التزامها مبدأ "مواءمة ممارستها المالية مع القوانين الاميركية" ستكون مضطرة تحت تهديد مقاضاتها بوَضع يدها على أيّ حساب يُشتبه بأنه تابع لأعضاء "حزب الله" أو مؤيديه.

وبموجب تطبيقات مبدأ مواءمة ممارسات المصارف اللبنانية مع القوانين الاميركية، بادرَ أخيراً كلّ مصرف لبناني لإنشاء إدارة مستحدثة داخله، تُسمّى "مكتب المواءمة"، وهدفها التأكد من كل عميل لديها لجهة أنّ مواصفاته لا تُخالف شروط المواءمة مع القوانين الاميركية. وإذا ثبُت أنه غير متوائم مع هذه القوانين فيتوجّب على المصرف ليس فقط الابلاغ عنه للبنك المركزي بل أيضاً وضع اليد على أمواله.

ولا يحق للمتضرّر من هذا الإجراء اللجوء الى القضاء لتبرئة نفسه او تحرير رصيده المالي من حبس التحريك. وفي المقابل اذا شكّكت وزارة الخزانة الاميركية بأنّ أيّ مصرف لبناني تقاعَس عن إبلاغها عن حساب أيّ مودع لديه، يوجد شك بأنّه على صلة بـ«حزب الله»، فإنها تلجأ لمقاضاته وإجباره (أي المصرف) على دفع قيمة المبلغ نفسه الذي كان في حساب العميل المتهم بعلاقته بالحزب ولم يتم الابلاغ عنه.

المشكلة التي تثيرها تطبيقات مبدأ مواءمة ممارسات المصارف المالية اللبنانية مع القوانين الاميركية تتمثّل في أنّ الاجراءات التي تتخذها لتجميد أموال زبائنها تحصل استنسابياً وعلى أساس الشبهات الامنية، وليس من خلال الرجوع الى القضاء اللبناني. يكفي لأيّ مصرف تجاري أن يصل اليه إشعار اميركي أو ابلاغ بحق أحد عملائه حتى يبادر الى تجميد حسابه بالتشارك مع البنك المركزي، في حين أنّ هذا العميل لا يجد أيّ فرصة قضائية للدفاع عن نفسه.

في سويسرا كما في فرنسا مثلاً التي تُطبّق مصارفها مبدأ مواءمة ممارساتها المالية مع القوانين الاميركية، تمّ حلّ هذه المشكلة الآنفة التي يعانيها الآن لبنان، وذلك عبر وضع إطار قانوني لتنظيم علاقة المصارف المحلية مع مبدأ المواءمة مع القوانين الاميركية.

فعيّنت هذه الدول قاضياً مالياً من داخل جهازها القضائي الوطني، مهمّته تطبيق القوانين الوطنية والدفاع عن حقوق المودعين في وجه أيّ ظلم يلحق بهم من البنوك المحلية التجارية المطبّقة لقوانين فتكا الاميركية.

والسؤال: هل يلجأ لبنان لمحاكاة هذا الحلّ؟ علماً أنّ نتائجه تطمئن زبائن المصارف اللبنانية أنهم غير مكشوفين قضائياً، وأنّ مطاردة حساباتهم لا تتم استنسابياً واعتباطياً.

ويرى اقتصاديون أنّ هذا الحل الذي اتّبعته دول أخرى لها وضعية العلاقة المصرفية نفسها مع اميركا ضمن قانون فتكا، قد يشكّل حلاً يمنع سير الأمور في اتجاه مواجهة بين "حزب الله" والمصارف أو حتى بين بيئته غير المنتمية حزبياً اليه وبين القطاع المصرفي.

ويقدم هذا الحل أيضاً وسيلة مقبولة دولياً وأميركياً يمكن من خلالها تجاوز إشكالية موضوعية يقول بها كثيرون في لبنان، وقوامها أنه لا الدولة ولا القطاع المصرفي قادران على مواجهة رغبة أميركا بمطاردة أموال "حزب الله" في لبنان، خصوصاً أنّ هذا الأمر يُعبّر عن تطور في الصراع بين الطرفين ودخوله مرحلة متقدمة من أسلوب الحرب الاميركية الناعمة ضده.

زد على ذلك، أنه بعيداً عن علاقة هذا الموضوع بالحرب الناعمة الاميركية على "حزب الله"، فإنّ المصارف اللبنانية لها مصلحة صرفة باستحداث إطار قانوني لبناني يُنظم عملية تطبيقاتها لمبدأ مواءمة ممارساتها المالية مع القوانين الاميركية، لأنه من دون توافر غطاء قضائي داخلي يشرف عليه قاض مالي يَحمي حقوق المودعين، فإنّ ذلك قد يؤدي الى هجرة بعض الرساميل للخارج؛ الى هونغ كونغ مثلاً او حتى الى المصارف الأوروبية الملتزمة قوانين فتكا، ولكنّ دولها أخضعت مواءمة ممارساتها المالية لإطار قانوني محلي يدافع عن عملائها ومصالحهم وودائعهم.

أهداف حرب اميركا الناعمة على "الحزب"

في السابق، اعترضت واشنطن أموال مودعين شكّكت في وجود علاقة لهم مع "حزب الله". ولكن هذه العمليات جرت في الخارج، وكان مستبعداً أن تُمارسها واشنطن داخل لبنان نظراً لأمرين اثنين: أولهما وجود قناعة بأنّ اميركا لا تريد المس باستقرار لبنان الاقتصادي والامني.

والثاني إدراك واشنطن أنّ القطاع المصرفي اللبناني له إسهام كبير في الحفاظ على استقرار الدولة اللبنانية ومنع انهيارها. والواقع أنّ هذين الامرين ظلّا لفترة طويلة يُنظر إليهما في لبنان بوصفهما مطلبين أميركيين وخطاً أحمر دولياً.

أخيراً، برز للمرة الأولى في لبنان كلام يتحدث عن أنّ المظلة الدولية التي تَحمي استقرار الحد الأدنى في لبنان أصبحت مثقوبة. وتمت الاشارة الى بدء واشنطن بمطاردة أموال الحزب داخل مصارف لبنان بأنّه مؤشر على أنّ اعتبار خوض حرب ناعمة لمحاصرة النفوذ الايراني في المشرق خلال مرحلة تحرير ايران من العقوبات الاقتصادية، سيكون له أولوية في واشنطن على اي اعتبار آخر.

ولا شك في أنّ اميركا ترمي من محاصرة أموال "حزب الله" أو من يؤيّده في المصارف اللبنانية، بعد المصارف العربية والغربية، تحقيق سلة اهداف؛ أبرزها إيجاد شرخ مصلحي بين الحزب والقاعدة البرجوازية الشيعية المقيمة او المهاجرة. ويلفت تقرير اميركي إلى أنّ هذه الشريحة الشيعية تشكل مصدر تمويل كبيرة للحزب من خلال التبرّع اليه بـ"أموال الخمس" المعتبرة نوعاً "من أداء الفرائض الشرعية الدينية عند الشيعة".

الى ذلك تريد اميركا وضع "حزب الله" في مواجهة مفتوحة مع نظام المصارف في لبنان. ويعتبر التقدير الاميركي عينه، أنّ هذه ستكون موجة خاسرة للحزب لأنّ القطاع المصرفي في لبنان هو أقوى هياكل النظام اللبناني ويحظى بسِمة أنه عابر للطوائف وعصيّ على احتوائه من خلال إثارة العصبية المذهبية بوجهه.

حتى الآن، يتمسّك "حزب الله" كما المصارف بشعار النأي بنفسيهما عن الانجرار للمواجهة. وتسود بين الطرفين حالة تفهّم لحراجة موقفيهما من هذا الضيف الاميركي الثقيل المستجِد عليهما. ولكنّ الحزب سيحاول بلا شك المطالبة بإطار قانوني ينظم علاقة المصارف اللبنانية بمبدأ مواءمة ممارساتها المالية مع القوانين الاميركية كما هو حاصل في دول اوروبية حليفة لأميركا.

يريد الحزب باختصار التقليل من آثار الحرب المالية الاميركية الناعمة عليه وعلى علاقته بقاعدته الاجتماعية، وفي الوقت نفسه يريد علاقات ليس فيها خطوط تماس متوترة مع المصارف التي هي جزء صميم من النظام اللبناني. فهل تنتج الحكومة إطاراً قانونياً كما الحال في باريس وسويسرا يساعد الطرفين للوصول الى هذه النتيجة؟