شكل خبر إختطاف الإمام موسى الصدر عام 1978 حدثا صادما للجميع لأن لا أحد كان يتوقع أن تقوم دولة بخطف شخصية من وزنه.

كثرت التحليلات فيما بعد عن الأسباب الرئيسية لهذه العملية ولم يكترث أحد بالبحث عن هوية المنفذ لأنها ببساطة كانت معروفة ومتمثلة بالنظام الليبي بشخص قائده المخلوع معمر القذافي. وأبرز ما جاء من تحليلات لأسباب الإختطاف هي العامل الإسرائيلي كون الإمام المغيب كان قد أطلق مقاومة لبنانية بوجه العدو الصهيوني في الجنوب.

للوهلة الأولى قد يكتفي أي قارىء بهذا السبب كون الوعي الجماعي اللبناني قائم منذ الماضي على أن إسرائيل وحدها من تعد وتخلق الفتن في لبنان. الصحيح أن إسرائيل تعد الفتن ولكن الأصح أنها ليست وحدها من تقوم بذلك. العامل الإسرائيلي في خطف الإمام قائم وموجود ولكنه ليس السبب الوحيد، فهناك أسباب أخرى وقوية ساهمت في تنفيذ جريمة العصر. لا بد من ربط اللحظة التاريخية التي سبقت خطف الإمام الصدر بعملية الخطف.

بمعنى آخر، لكي نعرف من خطط وخطف الإمام موسى الصدر علينا أن نعرف أولا اللحظة التاريخية الدقيقة بوقتها فمنها سنستنتج أسباب الخطف وسأترك لكم ولأنفسكم إستنتاج المنفذ والمخطط والفاعل وهو بالمناسبة ليس القذافي وحده كما هو شائع بل منظومة متكاملة من المصالح التي حددت هدف واحد وهو إزالة موسى الصدر عن الساحة.

من يقرأ الإمام المغيب في بداية الستينات يراه مختلفا عن نهاية الستينات وبداية السبعينات. تغير الرجل وتغيرت رؤيته ونظرته للأمور لأن التجرية أوضحت له الكثير من الأمور.

في اللحظة التاريخية التي تقاطعت فيها خمس أمور والتي ظهرت بشكل جلي في السبيعينات كان قرار الخطف قد أتخذ.

الأمر الأول هو الموقف من الصراع في الجنوب، ففي تلك اللحظة بدأ الإمام الصدر التصريح بضرورة فتح جميع الجبهات ضد إسرائيل لا أن يبقى الجنوب وحده يدفع أثمان الصراع العربي الإسرائيلي.

نعم، قالها الإمام الصدر في وقت حساس كان الجنوب صندوق بريد لرسائل الشرق الأوسط بأجمعه وسكان الجنوب يدفعون ثمن الرسائل دما وتهجيرا. 

أما الأمر الثاني فهو الموقف من الشرعية اللبنانية، فالإمام دعا إلى ضرورة قيام الدولة بواجباتها وبسط سلطتها في جميع الأراضي اللبنانية وخصوصا في الجنوب وتراجع عن شعار السلاح زينة الرجال بعد أن فهمه البعض بطريقة خاطئة.

بمعنى آخر أراد الإمام تقوية الدولة وبنائها، فالدولة القوية ستمنع أي تدخل خارجي وخصوصا عربي في شؤونها وبالتالي ستقطع الطريق على تحويل لبنان والجنوب بالأخص إلى صندوق بريد. والأمر الثالث هو تصرف وموقف الإمام الصدر إتجاه الحرب الأهلية اللبنانية التي إندلعت في 1975.

فمشروع الحرب قد إتخذ لكن الإمام إستطاع إخماد بعض المعارك وإعتصم في مسجد الصفا وساهمت أعماله في التقريب بين اللبنانيين. هنا لا أريد أن أتكلم بسريالية، الإمام إستطاع في بعض المحطات تحقيق نجاحات على مسار إنهاء الحرب الأهلية فنجح في بعضها وفشل في معظمها لكن لو قدر للإمام أن يبقى في لبنان لما كان مسار الحرب إتخذ المنحى الذي نعرفه، كان سيغير من أمور كثيرة فرفضه بأن يكون ميليشيا تشارك في الدم اللبناني لها أثمان في تلك الفترة والحياد يعني قتل فكيف إذا كان حيادا مع محاولات لإنهاء الحرب؟ الثمن سيكون غاليا.

فلنبحث هنا عن المستفيد من الحرب الأهلية، ولنبحث عن الدور الإقليمي والعالمي ولعبة المصالح. من كان يريد الحرب هو نفسه من له مصلحة في إخفاء الإمام الصدر لأنه ببساطة الإمام كان حجر عثرة أمام مشروعه. في هذه النقطة بالذات فلننظر إلى فترة إتفاق الطائف، وعندما نكتشف من قطف الثمار ندرك ماذا حصل في 1978. الأمر الرابع كان إنفتاح الإمام الصدر على جميع الدول العربية وعدم الإكتفاء بواحدة. كان يكرس واقع جديد على الساحة اللبنانية خارج المألوف والمتعارف عليه. لا تحالفات مع الخارج على حساب الداخل بل علاقات جيدة مع جميع العرب لمصلحة لبنان والعرب.

ولكن هناك من كان يريد لموسى الصدر أن يكون له تابعا لا حليفا وأن يبني تبعية لا علاقات ندية. والأمر الخامس والأخير هو دور الإمام موسى الصدر من الثورة الإيرانية والتي لم تكن قد إنتصرت بعد. كان الإمام الصدر محسوبا على تيار المعتدلين الإسلاميين في إيران وكانت حركة تحرير إيران تمثل هذا التيار وهي حركة ثورية وثقافية إسلامية ذات بعد ليبرالي تؤمن بالحرية والعدالة والإنفتاح وتضم عدد كبير من المثقفين أبرزهم الدكتور علي شريعتي والإمام موسى الصدر والدكتور مصطفى شمران وغيرهم.

وهذا التيار كان معاكسا لتوجهات التيار الإسلامي المحافظ والراديكالي الذي حكم لاحقا إيران. كانت تصريحات الإمام الصدر نحو إزالة حكم الشاه، وقد يكون هناك توجه نحو ملكية دستورية وإصلاحات في البداية، لكن الواقع السياسي إختلف وخصوصا عند الإمام الصدر وبالأخص بعد مقتل الدكتور علي شريعتي في لندن بظروف غامضة إتهمت فيها مخابرات الشاه بالوقوف وراء قتله آنذاك. كان موقف الإمام واضحا هو خلع الشاه عن عرشه. الخلاف بين التيارين ليس في الهدف التكتيكي أو الأسلوب بل الخلاف في الهدف الإستراتيجي. بمعنى آخر هوية النظام الذي سيتشكل بعد سقوط حكم الشاه.

وهنا عدة أسئلة تطرح في هذا المجال، هل كان سيقبل الإمام الصدر بولاية الفقيه المطلقة؟ وهل كان سيشجع على تدخل رجال الدين بتفاصيل الحياة السياسية الإيرانية؟ وهل سيتخذ موقف عدائي راديكالي متطرف إتجاه الغرب؟ وما موقفه من علاقة إيران مع العرب وخصوصا الخليج منه؟ ألم تكن حركة المحرومين في لبنان إنعكاسا وتجليا لحركة تحرير إيران؟ فكلا الحركتين لا تتبنى شعارات وأساليب وأهداف راديكالية وتضم نخب ثقافية. هذه أسئلة كبيرة عن شخصية كبيرة تعتبر رجل الظل في الثورة الإيرانية.

أين اليوم أعضاء حركة تحرير إيران وأين الإمام الصدر؟ كلاهما مغيبان عن الساحة.

فالعامل الإيراني مهم لفهم ما حصل مع الإمام وتفسيره بطريقة صحيحة سيعطي إستنتاج جيد.

تفاعلت هذه الأمور الخمس وتقاطعت فيما بينها في لحظة تاريخية متقاربة لتشكل منظومة مصالح حددت هدف واحد سيعرقل أهدافها في المستقبل. الإمام موسى الصدر كان قد أصبح ظاهرة مستقلة وتخطى لعبة المصالح الضيقة لكنه سقط في فخ خبيث لمنظومة خبيثة. هذه المنظومة معيارها المصلحة والغاية لا وحدة الأهداف والعلاقات الإنسانية والتحالفات، لذلك فقد تجد تناقض واضح في مكونات هذه المنظومة إيديولوجيا وسياسيا لكن ما يوحدها ويجمعها هو الإتفاق على هدف كموسى الصدر يزعج مصالحها.

ومجرد نظرة سريعة اليوم إلى المشهد السياسي في المنطقة، سنعرف لماذا ومن خطف موسى الصدر.

  بقلم: هلال رميتي.