اوراق في حياة بيار امين الجميل ترويها عائلته

 

 

الثالثة والنصف تقريباً. طلقات نارية تخرق زجاج السيارة الفضيّة الصغيرة في الجديدة. ألم شديد يعتصر القلب الشاب، لكنه لا يوقفه. تمرّ حياته نصب عينيه في ذاك اليوم الحزين من تشرين الثاني. ثم فجأة يعلو الصراخ...

23 ايلول 1973: يعلو التصفيق في القاعة الكبرى في شتورا، حيث يعقد حزب الكتائب مؤتمره السنوي. لقد همس أحدهم لتوه في اذن الشيخ بيار الجميل انه صار جداً لصبي سيحمل اسمه. يقترب من نجله أمين: "مبروك. إجا بيار". المولود الجديد هو الصبي الاول لأمين وجويس الجميل بعد نيكول التي سبقته بأربع سنوات. يسلم أمين على الحضور بسرعة، ويهرع الى المستشفى ليلتقي زوجته، وليحمل للمرة الاولى بين ذراعيه بكره، حامل ارث العائلة، وحزب العائلة والوطن.

"انه تاريخ فظيع"، تقول السيدة جويس الجميل المتشحة بالأسى. "تاريخياً، كان 23 ايلول موعد تسلم رئيس الجمهورية المنتخب لمهماته. ولد بيار في اليوم، ورحل عشية عيد الاستقلال في 21 تشرين الثاني. يا لها من مصادفة مخيفة".

"طفولة ورشة"

كان بيار طفلاً "ورشاً". يسرق الوصف من الوالدة ابتسامة تكاد تتحول ضحكة. "كانت معلمته في صف الحضانة تشكو منه، لأنه لم يجلس يوماً في الكرسي المخصص له، بل كان يقبع على الدوام تحت الطاولة او فوقها ويرندح النشيد الوطني بصوت عال. اما اذا قرر بيار التركيز على الدرس، فكان يسبق اترابه ويتفوق عليهم، ولذلك، عندما تسلم مهماته في وزارة الصناعة برع، وعندما قرر استعادة حزب الكتائب نجح. كان صبياً فريداً من نوعه".

لم يكن التعامل مع بيار الجميل طفلاً بالامر اليسير. "هو الصبي البكر، وحاولت ان اكون قاسية معه لأنه لا يفعل الا ما يحلو له. واذا اقتنع برأي الغير، أخذ به. المهم ان يقتنع بالاسباب. اذكر ايضاً انه كان يهوى القيادة مذ بلغ سن العاشرة، ولكثرة ما الح على احد المرافقين مرة، تسلم مقود السيارة التي سرعان ما انقلبت بهما، فخرج منها بأنف مكسور. في المستشفى قال ان الامر لا يعدو كونه حادث دراجة هوائية. لكن والده عرف ان بيار كان يقود سيارة!"

أما نيكول، شقيقته، فتذكر انها من علم أخيها القيادة في ما بعد: "كنت كعّيه. غالباً ما ركنت السيارة في موقع صعب وطلبت منه اخراجها(...). الا ان علاقتنا توطدت بعد زواجه من باتريسيا".

 

من المراهقة... الى الزواج

كبر الصبي. ولما حان وقت الالتحاق بالجامعة، قرر العودة الى لبنان بعدما سبق له ان وافى والده في المنفى الباريسي، والتحق بإحدى المدارس حيث نال شهادته الثانوية. تقول جويس: "لم يستغرق البحث عن اختصاص جامعي وقتاً طويلاً. جاء قرار بيار الالتحاق بكلية الحقوق طبيعياً، خصوصاً انه لم يشعر برغبة في ان يصير طبيباً او مهندساً".

هكذا عاد الشاب الى لبنان. وكان يحب البحر. في ربيع 1994، لفتته في دارة أحد الاصدقاء في مجمع "السمايا" صبية تلعب بالـgame boy. توجه اليها، وفي غفلة منها نزع من بين يديها اللعبة. "اذا فزت ستدعينني الى الغداء، والا ادعوك انا غداً". تصمت باتريسيا الضعيف، ثم تبتسم: "في اليوم التالي خرجنا معاً للمرة الأولى، ذهبنا الى سنتر سوفيل". في تلك الفترة، كان بيار شاباً عادياً، جامعياً "يراكم مواد الدراسة حتى اللحظة الأخيرة، ولم يأخذنا الواقع الى غير اللحظة التي عشناها. فبيار كان بعيداً عن السياسة، كان رجلاً عادياً وعشنا علاقتنا بشكل طبيعي. كان يردد دوماً انه يحبني، ويرى فيّ أماً لأولادنا، ويتخيلني معهم".

في سن الـ22، أسرّ بيار لوالدته انه يرغب بالزواج من باتريسيا: "قال لي انه يحبها، فطلبت ان يتريث لأنه لم يكن حاز على شهادته الجامعية. فسألته: كيف ستعيل عائلتك؟ ما زلت صغير السن!". وما ان انهى دراسته وفترة تدريبه في مجال المحاماة تزوج. كان ذلك في 25 ايلول 1999 في قبرص، بعدما تعذر على والده الحضور الى لبنان لأسباب أمنية.

بالنسبة الى الرئيس، يبقى بيار ولداً: "الاولاد لا يكبرون في نظر آبائهم. يبقون أولادنا ولو تخطوا سن الاربعين. عندما أخبرني بيار أنه يريد الزواج، اعتبرت انه كان صغيراً. لكنني شجعته عندما تعرفت الى خطيبته باتريسيا، وباركت المشروع... كان أملنا ان يتزوج في بكفيا لكن الظروف شاءت غير ذلك، خصوصاً ان والدتي لم تكن تقوى في ذلك الوقت على السفر طويلاً الى فرنسا، فوقع الاختيار على قبرص، وهكذا كان".

تتابع باتريسيا: "عندما عرفنا اننا سنرزق طفلنا الاول (أمين - 7 سنين) كان حماسه كبيراً جداً. اذكر جيداً انه اشترى كتاباً يشرح مراحل الحمل أسبوعاً بأسبوع، وكنا نقرأه معاً كل ليلة لنعرف كيف هو طفلنا، وكيف ينمو. اراد بيار صبياً، لكنه في أعماقه تمنى لو نرزق فتاة شقراء نسميها ميا. كم حلم بأن يراها تكبر ويتهافت عليها الشبان، ويمنعهم هو من الخروج معها!"

 

النائب الاصغر سناً

يذكر سامي الجميل كيف رافق شقيقه (الذي يكبره بثماني سنوات) في بدايات مسيرته السياسية منذ عام 2000 وقبل ذلك في نسج العلاقات مع الكتائبيين: "النشاط السنوي الابرز للكتائبيين كان قداس الشيخ بيار الجد. توليت انا التنظيم الى ان بدأ بيار يحتل الواجهة السياسية. وعندما ترشح للمرة الاولى عن المقعد الماروني في المتن لم أنم. عملنا جنباً الى جنب، فحقق بيار نجاحاً كبيراً بفوزه على رأس اللائحة بـ36 الف صوت".

في ذلك الوقت، كان بيار الجميل ثاني أصغر النواب سناً بعد النائب اميل اميل لحود. الا انه دخل البرلمان عام 2005 أصغر نائب في الامة.

ولأن السياسة تبدل الانسان، كان لا بد ان يعيش الشاب تبدلات جذرية في نمط حياته وكيفية تعامله مع الناس والواقع. ويقول سامي: "قبل ان يصير نائباً، كان بيار فجاً، الا ان دخوله معترك السياسة حد من تشددنا، فصار هو أكثر ديبلوماسية، وانا لا. كان اسلوبنا مختلفاً، لكننا عملناً معاً للأهداف نفسها".

أما الرئيس، فيروي أن صبيه البكر عانى كثيراً من الطقم السياسي "الذي دعا مرات الى صلب أمين الجميل. قهر ذلك بيار لأن الاساءة تطاول ايضاً ابناءه. انا كنت اخاف عليه، خصوصاً انه كان عرضة للمضايقات. اذكر انه اوقف مرة عام 1998 على حاجز أمني لأنه نسي ان يحمل معه دفتر السيارة. وعلى رغم ان احدهم ارسل الدفتر اليه في الليلة نفسها، بقي بيار موقوفاً حتى الصباح التالي انتقاماً، لأن اسمه بيار أمين الجميل، وكأنه العدو رقم واحد. تركت تلك الأحداث أثرها في نفسه... وانا كنت افضل لو يعيش عمره بدل ان يدفع ثمن نضالات العائلة بأكملها".

نصح الوالد لبيار بأن يبتعد عن السياسة ويهتم بدراسته، فينال شهادة عليا في الخارج لكنه رفض "لأنه يحمل ارث العائلة واسمها، فضل البقاء قريباً من الشباب الكتائبيين من جيله، فأدى عملاً جباراً وخلق ما عرف بالحركة الاصلاحية الكتائبية التي شكلت احتياطاً لحزب الكتائب في الزمن الرديء، وكان هو وراء توحيد الحزب عام 2005".

 

قرر الشاب خوض الانتخابات النيابية في المتن عام 2000، لأنه رأى فيها على قول والده "مشروع تحدّ تجاه الساعين الى محو تراث عائلة الجميل عن الخريطة السياسية في البلاد. فرفع بيار التحدي ليسجل موقفاً فيتحمل كل امرئ مسؤوليته. وقد تعرض الى محاربة شرسة في تلك الفترة ايضاً، علماً ان اللائحتين المتنافستين كانتا على علاقة وثيقة مع السلطة المهيمنة. وعلى الرغم من ان القوى الناخبة الاساسية كالارمن كانت ضده، نجح بيار في الانتخابات".

21 تشرين الاول 2006

... يعلو الصراخ في الخارج، خارج السيارة الفضية المهشمة. لكن قلب الشاب لم يتوقف. يرن الهاتف. يدرك سامي ان شقيقه تعرض لإطلاق نار، فيتوقع الاسوأ وكأن قلبه انبأه بذلك... ترتجف ركبتاه ولا يقوى على القيادة الى موقع الحادثة، فيتولى صديقه المهمة عنه.

الرئيس الجميل في بيت الكتائب. يتناهى الى مسمعه ان بيار استهدف بالنار: "رفضت التصديق، ظننت ان الامر لا يعدو كونه اشتباكاً. بدأت المعلومات تردني بالتواتر. ركبت السيارة وهرعت الى المستشفى. حاولت الاتصال بشقيقتي الاخت ارزة لكنني لم احصل على جواب من المستشفى لأن احداً لم يحولني اليها. فاتصلت بصديق العائلة هناك، الجراح جان بياجيني الذي شرح لي ان ولدي اصيب برأسه. ففهمت. كنت في منتصف الطريق. ولا اعرف كيف طاوعتني رجلاي للوصول الى مستشفى مار يوسف... كان يوماً مؤلماً جداً".

السيدة جويس في طريقها من بكفيا الى الساحل. يخبرونها عن اطلاق نار: "لم اتوقع الأسوأ. لكن هاتفي ظل يرن. اتصلت بأمين. وكان يبكي..."

اما باتريسيا فكانت برفقة ولدها ألكس (4 سنين) تشاهد رسوماً متحركة. Tintin. بكرها أمين، يشارك في نشاط مدرسي. يخبرونها عبر الهاتف عن اطلاق نار على زوجها: "لم استوعب. ركبت السيارة وبدأت ابحث عن الخبر في النشرات الاذاعية، فلم اسمع شيئاً. ولما انتهى الموجز على احدى المحطات، بدأ بث الموسيقى الكلاسيكية. فهمت. لم اعرف ماذا افعل او الى اين اذهب، فقصدت مستشفى الارز. وهناك أخبروني بضرورة ان اتوجه الى مستشفى مار يوسف في الدورة".

الرئيس الجميل كان اول الوصلين، ثم نيكول وسامي وجويس. عندما اقتحم سامي غرفة العمليات، كان الطبيب يدلك قلب بيار المتوقف...

كانت حياة والدته شيئاً، وصارت "شيئاً آخر". تحطم قلبها. لم يعد هناك من قيمة لأحد الا لعائلة بيار واولاده. "ابني لا يعوض، وسأبذل ما في وسعي ليعرف حيث هو في السماء انني موجودة هنا لمؤازرة زوجته وولديه". باتريسيا تناضل لتفهم: "كانت حياتي هنا وتركتني في غفلة مني. احاول ان اجد لها معنى من اجل ولديّ، هذه هي حربي اليومية".

 

الوالد، هو يقول ان حياة العائلة انقلبت: "هناك ما يعرف بالسعادة، يشعر بها المرء في حياته اليومية، عندما يتنزه او يتلقى هدية صغيرة. ولا يمكن الانسان العيش من دون سعادة بمعناها العام، هذا فقدناه. والسعادة الداخلية لم تعد تعرف طريقها الينا ابداً". اما سامي، فلا يتخيل الى اليوم ان يداً غادرة امتدت الى بيار. "فمن يعرفه لا يتخيل انه يقتل هكذا، بهذه السهولة. لقد مات لأنه زعيم مسيحي وشاب أعطى الأمل للمسيحيين عموماً، وللكتائبيين منهم خصوصاً".

ولدا بيار، أمين وألكس، يعرفان ان "بابا مات لأن شريراً أطلق عليه النار"، وانه "بطل، وهو ان صار بجوار الملائكة فهو معنا، يعتني والقديسون بنا" "اولاد بيار اولادنا وزوجته ابنتنا"، يقول الرئيس. "بالطبع، امين وألكس يدركان ان هناك خللاً الا اننا نحاول ان نأخذ الامور على طبيعتها قدر الامكان. هما يفتقدان بيار لأنه كان ولداً مثلهم يلعب معهم. لقد بقي طفلاً في جوهره، كما بقي عفوياً في السياسة يفكر كرجل ناضج وله في الوقت ذاته ردات فعل طفولية. كان وزيراً لا يأبه بالحراسة ولا البروتوكول، فيقود ليلاً مع زوجته الى الـMc Donaldsليتناولا الطعام. وبقتله، قتلوا البراءة".

اما المسؤول، والقول لجويس، فهو "ذاك العنف الاعمى الذي يعصف في قتلة الابرياء. هو عنف لا يقيم للحياة وزناً. الله يستر. خلص".

 

 

( نهار الشباب) ​