برغم قساوة العمل الإرهابي الذي استهدف الأبرياء في برج البراجنة، إلا أن نمط التعاطي الأمني والسياسي مع هذه الجريمة ساهم في احتواء آثارها، وحصر تداعياتها على أكثر من مستوى، بعدما استشعر الجميع خطورة اللحظة التي لا تحتمل ترف الاجتهاد.
في الأمن، يُسجل لـ «فرع المعلومات» إنجازه النوعي والسريع في تفكيك الشبكة الإرهابية التي تقف وراء الاعتداء المزدوج، من دون إغفال الدور الذي أداه أيضا «الأمن العام» على هذا الصعيد بعد نجاحه في القبض على اثنين ممن شاركوا في التحضير للجريمة، تسهيلا وتمويلا، ما يؤشر إلى أن الأجهزة الأمنية، بالتعاون مع مخابرات الجيش، هي على مستوى التحدي برغم حالة الانكشاف السياسي.
أما على الصعيد السياسي، فإن لحظة التضامن الوطني مع ضحايا التفجير لا تزال «صامدة»، في انتظار تبيان إمكانية إطالة أمدها والبناء سياسيا عليها، انطلاقا من مبادرة «السلة الكاملة» التي أطلقها الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، ولاقاها الرئيس سعد الحريري بإيجابية.
رواية البرج
ماذا عن تفاصيل رواية التفجير المزدوج الذي استهدف برج البراجنة؟ وكيف توزعت أدوار المتورطين فيه؟
عند الثالثة والنصف فجر الخميس الماضي لاحقت دورية أمنية في طرابلس شابا (ابراهيم الجمل) كان يقود دراجة نارية، بطريقة تثير الشبهة، فلما حاولت الدورية توقيفه شهر مسدسه في اتجاه عناصرها، الذين لاحظوا سلكا يمتد من تحت كمّ قميصه، فسارعوا إلى الانقضاض عليه وتوقيفه، علما أنه حاول في تلك اللحظة تشغيل حلقة الحزام الناسف لتفجيره، إلا أنه لم يتمكن من ذلك. (ظهر لاحقا التطابق بين هذا الحزام وبين الاحزمة التي استخدمت في تفجير البرج).
بعد وقوع العملية الإرهابية في برج البراجنة، تَسارَعَ إيقاع التحقيق مع الجمل، فيما كانت القوى الأمنية (فرع المعلومات والأمن العام) تلاحق الخيوط الأولى التي تم تجميعها، لتتكشف سريعا المجموعة الإرهابية، من مخططين ومنسقين ومسهلين ومنفذين، بالاستناد إلى المعلومات وتحليل «داتا» الاتصالات والصور المأخوذة من المتجر الذي اشترى منه هاتفه الخلوي.
ويمكن القول إن المجموعة الإرهابية تحركت عبر ثلاث محطات هي: جرود عرسال حيث الإدارة، طرابلس حيث التجهيز، وبرج البراجنة حيث التنفيذ.
وفي المعلومات، أن المُخَطِّط هو أحد أمراء «داعش» في جرود عرسال (س. ش.) الذي يتلقى أوامره مباشرة من «أبي البراء» الذي هو على صلة مباشرة بأحد القياديين البارزين في «داعش» والمدعو «أبو ايوب» العراقي المصنف بأنه جزء من الحلقة الضيقة القريبة من أبي بكر البغدادي.
وأظهرت التحقيقات أن المحرّك والمهرّب اللبناني إبراهيم ر. أدى دورا كبيرا على صعيد التجهيز والنقل، الأمر الذي تطلب منه زيارة مدينة طرابلس قرابة خمس مرات، تولى خلالها تنفيذ المهمات الآتية: في المرة الاولى نقل 1500 صاعق، في المرة الثانية نقل 250 صاعقا، في المرة الثالثة نقل كميات من المتفجرات، وفي المرة الرابعة نقل الانتحاري الاول واسمه «عامر» من عرسال إلى طرابلس، ثم سلمه إلى أحد عناصر «داعش» في نقطة قريبة من بيروت.
أما الانتحاري الآخر فقد انتقل من الرقة إلى تركيا ومنها إلى مطار بيروت ثم عرسال حيث استلمه إبراهيم ر. الذي نقله إلى شقة الأشرفية.
وفي 10 تشرين الثاني، استلم إبراهيم ر. حقيبتَين من طرابلس، واحدة مموهة فارغة، وثانية تحوي الاحزمة والمتفجرات التي جرى تجهيزها، وقد تولى تسليمها إلى الانتحاريَّين اللذين كانا يقيمان في أحدى الشقق في الأشرفية، بالتنسيق مع شخصَين، يملك أحدهما منزلا في مخيم برج البراجنة.
وتولى شخص من آل (د.) تحضير شقة الأشرفية للانتحاريَّين، كما نقلهما إلى مطعم الساحة، على طريق المطار، مساء يوم الجريمة الإرهابية، حيث شربا القهوة ثم أقفلا هاتفَيهما الخلوي واصبحا خارج السمع، إلى أن نفذا التفجير المزدوج.
وعمد (د.) إلى استطلاع مكان التفجير المزدوج، كونه مقيما في مخيم البرج، مع الإشارة إلى أن حوالة مالية وصلته من شخص مقيم في حمانا، أُلقي القبض عليه إلى جانب ثلاثة سوريين.
وبينما أكّد وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق لـ «السفير» أن هناك حربا إرهابية حقيقية ومفتوحة تُخاض على لبنان وتستوجب التعامل معها بأعلى قدر ممكن من المسؤولية والجهوزية، كشف المشنوق في مؤتمر صحافي أمس عن أن عملية برج البراجنة كانت تستهدف مستشفى الرسول الأعظم، لكن الإجراءات الأمنية المحيطة به جعلت الإرهابيين يغيرون الخطة.
وأوضح أن الشبكة الإرهابية التي كشفها «المعلومات» تتألف من 7 سوريين موقوفين ولبنانيَّين اثنين، لافتا الانتباه إلى أن من بينهم خمسة انتحاريين (انتحاريا البرج، وانتحاري جبل محسن الذي أوقف في طرابلس، وانتحاريان لم يدخلا الأراضي اللبنانية) ولكنّ اعتقال «المعلومات» الانتحاري إبراهيم الجمل (21 سنة) في طرابلس، وعدم قدرة انتحاريَّين آخرين على الوصول إلى لبنان، عطّلا المخّطط.
كما كشف عن أن الجيش اللبناني ضبط 10 سيارات ودراجات نارية مفخّخة في منطقة عرسال.
ووفق بيان صادر عن المديرية العامة للأمن العام، تمكن الأمن العام من توقيف كل من اللبناني إبراهيم احمد رايد، والسوري مصطفى أحمد الجرف المتورطَين في التفجير الانتحاري المزدوج في برج البراجنة.
واعترف رايد بمشاركته مع آخرين في التخطيط للعملية الإرهابية، حيث قام بنقل أحد الانتحاريين من الأراضي السورية إلى شمال لبنان ومن ثم إلى منطقة بيروت، وتسليمه المتفجرات التي جرى نقل كميات منها إلى داخل لبنان إضافة إلى صواعق وأسلحة فردية، وكان يتلقى أوامره وتعليماته مباشرة من أحد أمراء تنظيم «داعش» الامنيين في الداخل السوري المدعو «س.ش.»، ويدير شبكته الإرهابية الموزعة في طرابلس والأشرفية وبرج البراجنة.
واعترف الثاني بإقدامه على تحويل أموال لمصلحة أعضاء الشبكة المشار إليها، وضُبط بحوزته كمية كبيرة من الأموال.
وبينما أُحيل الموقوفان مع المضبوطات إلى النيابة العامة العسكرية، لا تزال الأجهزة المعنية في الأمن العام تلاحق باقي أفراد الشبكة الإرهابية لتوقيفهم.

المناخ السياسي

سياسيا، ظلت الساحة الداخلية محكومة بمفاعيل جريمة الاعتداء على برج البراجنة، في ما بدا أن «سلة» السيد نصرالله قابلة للنقاش لدى الفريق الآخر، على قاعدة إعطاء الأولوية فيها لرئاسة الجمهورية كما يُستنتج من رد الرئيس الحريري.
واعتبر الرئيس نبيه بري أمام زواره أمس أن طرح السيد نصرالله ورد الرئيس الحريري عليه هما أمران إيجابيان، في هذه الظروف الصعبة، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن ما صدر عنهما يتقاطع مع مضمون جدول أعمال طاولة الحوار الوطني المنعقدة في مجلس النواب.
وأكد بري، من جهة أخرى، أنه سيدعو إلى عقد جلسة تشريعية جديدة كلما اقتضت الضرورة ذلك، مشددا على أنه غير معني بأي كلام آخر.

السينورة: كلام السيد جيد

وقال رئيس «كتلة المستقبل» النيابية فؤاد السنيورة لـ «السفير» إن كلام السيد نصرالله المتعلق بالسلة الشاملة هو جيد، و «يشكل خطوة في الاتجاه الصحيح، ويعبر عن الرغبة المستجدة في إيجاد تسوية، إلا أنه يحتاج إلى مناقشة وبلورة، وهذا ما نأمل في حصوله من خلال الحوار المستمر بين تيار المستقبل وحزب الله».
وأضاف: نحن من القائلين دوما بأننا شعب واحد، لا خيار لنا سوى أن نعيش مع بعضنا البعض، ولذلك كنا ولا نزال حريصين على استمرار الحوار مع الحزب، برغم أنه لم يحقق بعد شيئا مهما مما كنا نعوّل عليه، لجهة انتخاب رئيس الجمهورية أو تخفيف الاحتقان المذهبي.
وشدد على أهمية أن تنطلق بداية الحل من الاتفاق حول رئاسة الجمهورية التي تشكل مفتاح الأبواب المقفلة الأخرى، لافتا الانتباه إلى أن أي تقدم يتحقق على طريق انتخاب الرئيس من شأنه أن يفتح مسارات جديدة في الحوار، وبالتالي أن يساهم تلقائيا في تذليل العقبات التي تعترض الملفات الخلافية العالقة.
واعتبر أن المطلوب إجراءات بناء ثقة على الأرض حتى لا تبقى الإيجابيات نظرية، لافتا الانتباه إلى أن من يملك السلاح هو الأقدر على اتخاذ مثل هذه الإجراءات.
وجدد السنيورة تنديده ورفضه «للجريمة الإرهابية التي وقعت في برج البراجنة، انطلاقا من موقعنا المعتدل في لبنان والعالم العربي»، إلا أنه أشار إلى أن مكافحة الإرهاب لا تكون فقط في معالجة نتائجه وإنما في اجتثاث جذوره.
وأضاف: صحيح أنه لا بد من استخدام الحزم ضد الإرهاب والسعي إلى تجفيف منابعه، ولكن الصحيح أيضا أنه ينبغي التصدي لأسبابه ومنها استبداد الأنظمة، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والعديد من الأراضي العربية، من دون أن نتجاهل أيضا أن تورط حزب الله في سوريا أدى إلى توريط لبنان وأوقد نار الفتنة، والحزب مدعو إلى العمل بالمثل البيروتي القائل: ما تدق بالحمى، بتجيك البردية..

جنبلاط: نعمل بالمقلوب

وقال النائب وليد جنبلاط لـ «السفير» إنه يتمنى حصول التسوية السياسية بأسرع وقت ممكن، مشيرا إلى أنه لا يمانع في السلة المتكاملة التي اقترحها السيد نصرالله، والتي تتضمن رئاسة الجمهورية وتركيبة الحكومة وعمل مجلس النواب وقانون الانتخاب.
ولكن جنبلاط اعتبر ان الأولوية ضمن تراتبية بنود هذه السلة يجب ان تكون لانتخاب رئيس الجمهورية، مضيفا: ما ألاحظه الآن أننا علقنا بقانون الانتخاب، لأننا قررنا أن نعمل بالمقلوب.