لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الخامس والثمانين بعد الأربعمئة على التوالي.
لا الرئاسة متاحة ولا الإفراج عن المجلس النيابي والحكومة وارد، وها هو الحوار يمضي إلى جلسته الثالثة، اليوم، من دون أوهام بأن ما ينبغي أن يقال قد قيل في الجلسة الأولى، وليس غريباً أن يعيد بعض أهل ساحة النجمة النظر في جدوى مضيهم بحوار تقطيع الوقت.
أما الحراك الشعبي ضد السلطة السياسية، فإنه يستمد زخمه من حيوية غير مسبوقة في الشارع اللبناني ولَّدت شرارتها النفايات، تعبيراً عن حالة قرف متجذرة من جهة ومن هريان سياسي واقتصادي واجتماعي وإداري يتباهى بعض أهل السلطة بمسؤوليتهم عنه، كما فعل وليد جنبلاط، أمس، ويصر البعض الآخر على المكابرة، استدراجاً للمزيد من الهريان.
اليوم، يتمّ الحراك المدني شهره الأول، وبرغم حرص بعض نواته الصلبة التي كانت أساسية في بلورته في لحظة الثاني والعشرين من آب الماضي، على القول «إنه بألف خير»، لا بد من قراءة موضوعية تأخذ في الاعتبار حيويته المتصاعدة.
فلقد قطع الحراك شوطاً في تثبيت أمور اساسية أبرزها: تكوين لجنة تنسيق بين المجموعات - مكونات الحراك، الخروج في غالبية الأحيان ببيان موحد، إلقاء كلمة واحدة في التظاهرات والاعتصامات، لجنة من عشرات المحامين للدفاع عن المتظاهرين، لجنة للإطلالات الإعلامية، عشرات المتطوعين للتنظيم والضبط، لجان في المناطق، لجان في الاغتراب، والأهم الاقتراب من وضع «أجندة» مطلبية ـ سياسية وإن لم تصل إلى خواتيمها النهائية بعد، سقفها العلم اللبناني الذي يرتفع وحده في كل التحركات.
وبرغم أن الحراك الحالي لم يأت من فراغ وإنما نتيجة تراكم حراكات سابقة من «حملة إسقاط النظام الطائفي» إلى حراكات حقوقية نسوية وشبابية وصولاً إلى «هيئة التنسيق النقابية»، إلا أن السقف السياسي الذي وضعه كان الأعلى لجهة الانقلاب على الاصطفافات السياسية ما بين قطبي «8 و14 أذار»: «14 و8 عملوا البلد دكانة» ومعه شعار «كلن يعني كلن».
كل هذا يجري والدراسات تقول (2009) أن 70% من الأجراء لا يزيد دخلهم عن 700 دولار شهرياً، فرص العمل لا تستوعب سنوياً أكثر من 35% من متخرجي الجامعات، ارتفاع موجات الهجرة إلى أعلى معدلاتها منذ 2005 ولغاية اليوم، الشعور العارم لدى المواطنين بالقلق المستدام الذي يصل إلى حدود المرض النفسي وسط ضيق فرص العيش اليومي وعدم تناسب الدخل مع أكلاف المعيشة والافتقار إلى الخدمات والضمانات غير القابلة للتجزئة، والأهم سيطرة ثلاث شركات احتكارية على ثلثي أسواق الاستهلاك في لبنان، وصول الاقتطاع الضريبي إلى 20 في المئة وسط صدمة المواطنين من الفارق بين ما يدفعونه وبين ما يحصلون عيله.
خرج المواطنون إلى «معركة» بين المواطن والزعيم، بين فكرة الدولة الديموقراطية المبنية على المساواة ودولة الزعماء المبنية على «كاريزما» الزعيم والتسليم بسلطته بغض النظر عن أفعاله، وبالتالي عدم محاسبته. ساروا يدافعون عن حقوقهم وضرورة الحصول عليها ليس بـ «الواسطة» و «الاستزلام» وإنما بانتزاعها، وبخلق مساحة عامة للنقاش.
وإذا كان من المبكر جداً محاكمة الحراك الفتي، لكن ذلك لا يمنع طرح جملة من التساؤلات:
هل سيتمكن الحراك من التغلب على الخوف واليأس وهو لم ينتج بعد خطاباً سياسياً موحداً من الدرجة الأولى، بل يستكشف طريقه خطوة بعد خطوة؟
هل سيتمكن من حسم السباق بينه وبين السلطة لمصلحته، وهو سباق يعتمد على فرض عناوين جديدة وتحقيق انتصارات مع تقدمه وتطوره وعبر خلق جاذبية للاستمرار، في مقابل تطوير السلطة لأدوات الاحتواء والمواجهة والقمع؟
وإذا كانت المجموعات الشبابية الفتية التي انطلقت بالحراك تفتقر إلى الخبرة السياسية للحفاظ عليه، إلا أنها تمكنت من فرض واقع جديد في البلاد حيث لم يعد الإعلام مسرحاً للزعامات التقليدية وخطابها، بل لوجوه شابة جديدة تحتل حيزاً أساسياً منه، وتفرض تغيراً جوهرياً في الخطاب العام. كما كسرت نمطية احتكار الشارع ونزول المواطنين من خارج الاصطفافات الطائفية والمذهبية على ضفتي «14 و8 آذار».
كل هذا في ظل وجود مزاجين ضمن الحراك: المطالبون ببرنامج سياسي ربما يكون فوق طاقة الحراك حالياً من جهة، والمطالبون بمطالب على قاعدة الحقوق من جهة ثانية. مزاجان يمكن القول إنهما يتقاربان مع الوقت لتصبح المطالب - الحقوق ذات وجه سياسي كما هي في الواقع.
وبرغم التسليم بوجوب عدم المقارنة مع حراكات هزت الشارع اللبناني على غرار حراكات السبعينيات، أيام عز الحركة النقابية واندفاعة الأحزاب التقدمية واليسارية التي كانت رافعتها الأساسية، بينما يتحرك جيل اليوم بعيداً عن أي رافعة حزبية ونقابية بعدما شرذم النظام ورجالاته النقابات والأحزاب إلى حد أنها اصبحت تسعى من خلال المشاركة بالحراك، لاستعادة بعض شرعية بدل أن تكون هي الرافعة.
يجد الحراك نفسه أمام إشكاليات موازية تتمثل بتحدي التوصل إلى إطار قيادي تنسيقي مع الحفاظ على الممارسة الديموقراطية في ظل هذا التنوع الكبير بين مكوناته. بالإضافة إلى السعي لانتزاع حقوق المواطنين التي في ذمة الدولة وإلا على الأقل منع السلطة من ارتكابات وانتهاكات جديدة لحقوق اللبنانيين.
كل هذا وسط تباينات بين مكونات الحراك نفسها والتي تتبلور في الاتفاق على شرعية المطالبة بتغيير النظام ولكن مع الخلاف على هوية النظام الجديدة وبنيته (مثلا الاتفاق على قانون انتخابات على اساس النسبية والخلاف على النسبية خارج القيد الطائفي).
في المقابل، هناك الحملات الاتهامية التي تستهدف بعض المنشِّطين للحراك ومواجهة هذه الحملات، بالإضافة الى كيفية مواجهة أي عنف رسمي قد تعود السلطة لممارسته، ومعه العنف الممارس من مجموعات مدنية محسوبة على هذا الفريق السياسي أو ذاك.
ويبقى أنه ليس سراً أن ثمة جهات في لبنان توزع ما تصفه بالتاريخ الشخصي لبعض منشِّطي الحراك وفيه ما يفيد أنهم على علاقة بأجهزة أمنية أميركية، وأن آخرين منهم شاركوا في الانتفاضات التي شهدتها تونس على وجه الخصوص ثم مصر، وباشرت التحرك في سوريا ولكن تطور الأحداث دموياً جعلها تتأخر عن مباشرة نشاطها هناك.
ومع أن هذه الاتهامات تركز على من تعتبر أنهم قد شاركوا في دورات تدريبية في بعض دول أوروبا، إضافة إلى الولايات المتحدة، فواضح أن الهدف المباشر منها هو التغطية على أهداف الحراك وتجاوز حقيقة أن منشِّطيه كانوا حريصين - على تعدد منابتهم الفكرية - على سلميته والتركيز على أهدافه المباشرة والبسيطة.. إلى حد الاستماتة.