ما بين احتكام الفضيلة وسلوك دربها المناط بالأعمال الخيّرة أو الرذيلة، يلجأ الكثيرون الى إشباع رغباتهم الشهوانيّة المليئة بالشرور والماديّات، فيعمدون الى استغنام الفرص لطعن صلة القرابة التي تجمعهم بمحيطهم ويشوّهون بالتالي مسيرة عائلة استودع ربّها الحياة بعد منازعات جمّة مع المرض.

تراها منهمكة في عملها الدؤوب تلبي رغبات الزبائن وحاجاتهم متسلحةً بابتسامة خجولة تخفي وراءها شوقها لحنان الأب ولوعتها عليه. ووسط موجة من البكاء تخللتها بعض الشّهقات روت "غدير" (21 عاماً) من الجنوب مراحل مصارعة والدها الموت وكيفية خيانة الأخ لأخاه على فراش الموت وغدره طمعاً في الحصول على المكاسب النفعية. وتبدأ "غدير" بالحديث "والدي كان أحد تجار البضائع المستوردة من الخارج كالثياب التركية والمازوت والبنزين، معروف من قبل زبائنه ويعمد الى السفر من حين لآخر لسدّ وإكفاء متطلبات الأسواق اللّبنانية، وبذلك لم نكن نعاني من أي ضائقة ماليّة نظراً لديمومة العمل ومدخوله المربح بالإضافة الى امتلاكنا سلسلة من الأراضي العقارية".

وأضافت: "يعاون أبي في العمل عمّي حاصداً نسب من الأرباح وهذا جزء لا يتجزأ من حقوقه التي لا يمكن نكرانها أو إغفالها. ولشدّة ثقته بأخيه إئتمنه على كافة ما جناه عمره من أموال وممتلكات من خلال وكالة رسمية تمنحه أحقية التصرف لمداراة مستلزمات العمل والبيت في حالة سفره الإضطراريّ، إلّا أن صحة أبي ومعاناته مع مرض السكري وتدهورها قد كشفت المستور وفضحت مطامع وغيرة وحقد الأخ تجاه أخاه".

استغلّهم... وباع أربعة أراضي

وتابعت غدير، "بعد استلام عمّي سدّة رئاسة العمل بمفرده نظراً لانتكاسة صحة أبي بدأ المردود الماديّ بالتّضاؤل رويداً رويداً، وباتت الشّكوك تراود مخيلتنا، أمّا والدي المُعتّر فلم يتهاون بصدق أخيه مدافعاً عن نبالته قائلاً: أخي...لن يأتي ويطعنني بظهري كالغرباء و"الدم بعمرو ما بصير مَي". 

ثلاثُ سنواتٍ من الاحتيال وانعدام الأمل في مُلامسة الشّفاء المرجو والحاجة الى عملية جراحية في القلب فوراً في ظل عدم الإنخراط بالضمان الإجتماعي كانوا كفيلين لمعرفة الحقائق. إذ تشير الإبنة الى "أن تكاليف العملية داخل المستشفى كانت باهظة جداً بحيث رفضوا إدخال والدها إلّا بعد تزويدهم بدفعة أولى كتأمين، فسارعنا لإحضار ما يتوفر من النقود لكنها لم تكفيهم حينئذ طلبنا من عمّنا بيع شقفة أرض واحدة من أملاكنا الشّرعية ومدّنا بنقودها لتسديد المستحقات. وتباعاً استغّل الأخير الضياع العائليّ والقلق النفسيّ المعاش ليبيع أربعة أراضي من دون علمنا أو موافقتنا، مبادراً ببراءة الى إعطاءنا مردود أرض واحدة لاعتبار أن ألاعيبه هذه لن تبان".

...تبلور الأكاذيب

بعد فترة زمنية من خضوع الأب للعملية، بانت الأكاذيب لحظة مجيء أحد شراة الأراضي الى المنزل لمعاودة التفاوض على أرض لم يتمكن من شراءها سابقاً. تفاجأ الأب بهذا الخبر متهماً الشاري بتلفيق الأكاذيب ومطالباً إياه بالمستندات الثبوتية وبرحابة صدر وافق الأخير وجلب بعد يومين أوراق نقل الملكية والطابو والتنازل لدى كاتب العدل. وبحزن وأسى قرر والد "غدير" مواجهة أخاهُ وجهاً لوجه ولولا تدخل الأقارب لفض الإشكال المحتدم الدائر بينهما لكانت قطرات الدماء قد اكتسحت الأرض. وبعد ثلاثة أشهر من المناقشات تخللها طلب السماح وإعادة أموال الأراضي سالت المياه الى منابعها.

مخادع..."أنا ما أكلت حق حدا"

أربع سنوات من الوئام والسلام عادت خلالها السفن الى مرافئها واستمر العم بمزاولة عمله السابق، إلا أن شيطانه المكبوت في جوف أعماقه لم يهدأ، وخصوصاً حين عَلِم أن أخاه من شحمه ودمه بات يحاول استنشاق أنفاسه الأخيرة. ودوليك رفض بكراهية طلب والدة "غدير" تزويدها بالمال لإدخال زوجها الى المستشفى، ولجأ باحتيال الى سرقة كافة الممتلكات عبر نقلها الى اسمه بشكل شرعيّ نظراً لصلاحية الوكالة.

لم تشأ العناية الإلهية أن تبقي الوالدة في مهب رياح مصير زوجها تقرع الأبواب حتى تستجاب طلباتها. فبفضل مساعدة صديق ابنتها الذي يكنّ لهم المودة والإحترام تمكنوا من إدخال الأب الى العناية المشدّدة حيث حاولوا الأطباء مداواته بكافة الطرق والأساليب، إلا أنّه كان قد دخل بغيبوبة لم يستطع الإستفاقة منها إلّا بعد موته الرحيم. 
صدفةً، اكتشفت عائلة "غدير" بعد محاولتها إقامة حصر إرث أتّها لا تملك شيئاً سوى بيت شاءت الأقدار أن يكتب باسم والدتها لأن العم كان قد استولى على كافة الممتلكات تحت شعار "أنا ما أكلت حق حدا".

أخيراً فُرجت... ولكن 

تفاقمت الديون وتراكمت فوائدها فاضطرت الوالدة التي تعاني من الربو الى بيع ذكريات بيتها الزوجيّ لسدّها، غير أنّها وبحنكة اعتمدت سياسة شراء سيارتين حديثتين بالمبلغ المتبقي وطرحت تأجيرهما لمكتب تأجير سيارات تدرّان لعائلتها النقود باستمرار، فضلاً عن استئجارها منزلاً يحميهم من غدر الأيام وبرد الشتاء. أمّا "غدير" الشّابة المتفوقة في مدرستها والمحبّة لتعلّم "مهنة تصميم الأزياء"، ونظراً للأوضاع المعيشية المتواضعة فحكمت بنفي طموحاتها وآمالها على أوراق بالية كانت قد رسمت ضمنها خطوطاً وتصاميم هندسية أنيقة شكلت عبرها فراشات جذابّة مستقبليّة. 

وفي ظل بيئة إجتماعيّة تعشعش فيها الغدر والفساد الأخلاقيّ، يبقى السؤال، متى يستشيط الوعي الإنسانيّ ويدرك حقيقة ما خلّفته يداه من لوعة وحرقة ؟

 

 

(ليبانون ديبايت)