مرّة جديدة يخرج جزء من اللبنانيين إلى الشارع. خلال هذا اليوم الذي لم يعد يهمّ رقمه التسلسلي أو نسبة نجاحه أو إخفاقه، مرّت لحظة تلفزيونية باعثة على التأمّل حين واجهت إحدى الشابات عدسة الكاميرا مُعلنة "لا نطلُب منكم أن تكفّوا عن السرقة، وإنما نطلُب منكم ألاّ تسرقوا كل شيء".

 

بدَت الشابة في عقدها الثاني أو ربما الثالث، وراحت تتحدّث فيما صوتها يتهدّج من درجة الإنفعال العالية، عن ضيق عام وعن صعوبة العيش بالنسبة لأبناء جيلها وعن الأقساط والفواتير المتراكمة، مستخدمةً لغة على قدر من العفوية والعجالة. ثمة احتمال كبير بأن لا تكون الشابة على إدراك بأن لموقفها العلني إمتدادات أدبية. لم تعِ ربما انه يتقاطَع مع بعض ما ورد في أحد نصوص كاتب حاصل على "نوبل" الآداب بهوية ماريو فارغاس يوسا، وانها إقتبست من حيث لا تدري شيئا من كلام نصه المرجعي الذي لم يعد يعوز التقديم "عصر الإستعراض".

 

 

تنبّه هذا المؤلَّف في الأساس إلى الفساد الثقافي غير انه وصل في أحد أقسامه، إلى الفساد السياسي أيضا. في كنفه استعاد فارغاس يوسا ندرة أخبره بها كاتب آخر يدعى خورخي ادواردو بينافيديس. والحال ان بينافيديس استقل سيارة أجرة في ليما يوماً، فما كان من سائقها إلاّ ان حاول حثّه على انتخاب ألبرتو فوجيموري (المرشح لرئاسة الجمهورية وخصم فارغاس يوسا في انتخابات 1990) لأنه "سرق ما توجّب عليه فقط". وجد فارغاس يوسا في الحكاية بساطة معبّرة، فكتب مستنتجا انه يمكن السياسي ان يسرق، بل اكثر، لا يمكن إلاّ ان يسرق، اما المهمّ فألاّ يسرق اكثر مما يجب!

 

 

يسمي فارغاس يوسا الفساد "السرطان الفتّاك" ويخصّص أكثر من قطعة تأليفية في منجزه بغية الحديث عنه ولاسيما في خضم روايته "البطل المتحفّظ" حيث يعبّر عن إيجابية الإقتصاد الحر والإنفتاح في أميركا اللاتينية اللذين أفادا الطبقة الوسطى، في حين أمعَنّا في الظلم وفي فساد عضال.

في جوار البيرو، بلاد أخرى هي المكسيك حيث عاين راويها الأفصح كارلوس فوينتيس فسادا مستشريا أيضا عند محترفي السياسة في كنف روايته "آدم في الجنة"، عرّج به في سياق رصده للإضطراب المتسلل إلى يوميات مواطنيه الخاضعين لسلطة تجّار الممنوعات.

وإذا عمد فارغاس يوسا إلى تسمية الفساد مرضاً، فقد أقدم فوينتيس على وصفه بما هو أكثر إيلاما، ذلك انه اعتبره تقليدا.

ذاع صيت أميركا اللاتينية لسبب تخطّى نموذجها الأدبي الذي يحتذى، بعدما إلتصقت ببعض بلدانها ممارسة سياسية مجحفة إزاء مواطنيها. والحال ان حكايتنا اللبنانية شديدة الشبه في أكثر من فصل - وإن مع بعد الخصوصيات بلا ريب - بشيء من سرديات هذا القسط من القارة الأميركية.

لن نجد شعبا سيرغب في الإقامة تحت نير نظام يستخفّ بآماله، وإن وجد حكام كثيرون سيشتهونه بلا أدنى شكّ.

بات الفساد من بداهات الأرض اللبنانية، وهذا حزين ومحبط.

 

 

نخاف أن تصير ألف عام منصرمة في ماضي بلادنا كألف عام مقبلة.