حفل الأسبوع الماضي، في موازاة تحرّك "التيّار" العونيّ، بالحملات على ميشال عون والسخرية منه. والحملات مفهومة ومبرّرة، وكذلك السخرية، خصوصاً وقد ترافق ذلك مع الاستعراض الرخيص لوزيره وصهره جبران باسيل في مجلس الوزراء.

 

لكنّ نقد عون ونقضه لا يكتملان، ولا يثمران سياسيّاً، من دون مراجعة الظاهرة العونيّة في أسباب نجاحها من حيث تمثيلها أكثريّة المسيحيّين والنطق باسمهم.

 

والحال أنّ التاريخ، تاريخنا وتاريخ سوانا، لا يبخل بلحظات عريضة تسنّى فيها لأشخاص يشبهون عون أن يمثّلوا جماهير عريضة يلفّها الإحباط، وأن يعبّروا عن أوهام تراءى للمحبطين أنّها آمال ووعود.

 

ووظيفة من يتصدّى لنقد عون، أو من يماثله، إنّما تبدأ بالتساؤل: لماذا نشأ الإحباط أصلاً، ولماذا عبّر عن نفسه بهؤلاء الأشخاص وبهذه المواقف؟

 

أغلب الظنّ، وإلى جانب أسباب كثيرة أخرى، أنّ السبب الأهمّ والأبرز وراء الظاهرة العونيّة عدم مداواة الجرح الذي ألمّ بالمسيحيّين في الثمانينات والتسعينات: فبعد ستّ سنوات على الهزيمة في حرب السنتين (1975-6)، كان مصرع بشير الجميّل الذي تلته الهزيمة المدوّية في حرب الجبل وشرق صيدا وما أعقبها من تهجير وهجرة. وكان ما فاقم هذا الانكسار الذي أصاب القاعدة التقليديّة والمؤسِّسة للوطنيّة اللبنانيّة ربط المسيحيّين بإسرائيل على نحو "يبرّر" المآسي التي نزلت بهم. ولم يكن ينقص لاكتمال المأساة إلاّ الحروب الحمقاء التي شنّها ميشال عون مصحوبة بنقص مدهش في الإعداد السياسيّ، فضلاً عن الحربيّ.

 

أمّا بعد الطائف، في التسعينات، فجرت مأسسة الأحداث التي شهدتها الثمانينات. هكذا، وبرعاية من نظام الوصاية، حلّ تواطؤ عريض على إبقاء المسيحيّين في تهميشهم، بل تكريس هذا التهميش والإفادة منه، وهو ما وجد أحد تعابيره في توزّع القادة المسيحيّين حينذاك بين السجون والمنافي.

 

وغنيّ عن القول إنّ القادة الذين صاروا، بعد 2005، استقلاليّين وقياديّين في 14 آذار كانوا، مثلهم مثل الذين تزعّموا 8 آذار، مشاركين في هذا التواطؤ وفي جني المكاسب من التهميش المسيحيّ. لكنْ ما إن بدا، بعد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أنّ صفحة جديدة فُتحت، حتّى كان "التحالف الرباعيّ" الذي نظر إليه المسيحيّون بريبة مبرّرة. ذاك أنّ تلك الهندسة الانتحابيّة الخبيثة لم تكن تقبل الفهم إلاّ كمحاولة لتجديد التهميش المسيحيّ بأسماء وعناوين أخرى.

 

هكذا تبقى مراجعة تلك السياسات، لمن لا يزال يراهن جدّيّاً على وحدة لبنان، شرطاً شارطاً، لا لفهم الظاهرة العونيّة فحسب، بل أيضاً للمباشرة في فكّ الجمهور المسيحيّ عن مثل هذا القائد الذي جاء الصعود التكفيريّ مؤخّراً يعزّز بعض حججه لدى جمهوره الخائف. فهل ثمّة في البيئة السياسيّة السنّيّة من يفعل ما فعله تمّام سلام في 1992 حين تفرّد بالتضامن مع تهميش المسيحيّين؟

 

اليوم، لا يكون التضامن بالاستنكاف عن خوض الانتخابات، بل بمراجعة نقديّة لتلك السنوات المُرّة.

 

 

المصدر: ناو