أربعون عاما ... ولا تزال البوسطة تسير على أحلام شعبٍ، دفع ولا يزال يدفع غالياً، ثمن إدمانه على سموم الفتنة المعلبة، بنكهاتٍ إقليمية ودولية مختلفة. لا تزال تسير... وتحاول جاهدة بفراملها المستوردة أن تحطّم مستقبل وطن يُحتضر. أربعون عاما... ولا تزال رائحة الدماء المشبعة بحقد النفوس عابقة في شوارع بلدٍ كان، وربما سيبقى، حلبةً لـ"صراع الآخرين". فما الذي يعرفه شباب لبنان عن تاريخ 13 نيسان، بما فيه من ويلات ومآسٍ، وماذا يحمل لهم هذا التاريخ من معانٍ مؤلمة، وكيف سرد لهم آباؤهم روايات الحرب، وهل ينظرون لواقعنا الحالي بعيداً عن ترسبات تلك الأيام الأكثر دموية، أم يرون فيه امتداداً رمادياً لحوادث سوداء، قدّر فيها الزعيم، وما شاء فعل...؟


"تنذكر وما تنعاد" هي المرافق البديهي لذكرى 13 نيسان، تلك الذكرى التي كتبها الرصاص، ونحتتها شظايا القذائف، وخلدها الدمار المعنوي المستمر للسنة الأربعين على التوالي. 
هم شباب لا يذكرون الحرب، بعضهم ولد خلالها، وبعضهم الآخر بعد انتهائها، ولكن جميعهم، وإن لم يكونوا قد عاينوا الذكرى، إلا أنهم اقتبسوا من ذاكرة آبائهم ما يلزم من العِبَر، أو لجؤوا للباحث الإلكتروني ليقصّ عليهم قصصاً هجينة عن وطنٍ رأى به الآخر تربة صالحة لبذور الفتنة، ونظاما طائفيا قادرا على تأمين الحصانة المستدامة لها.

الحرب مستمرة

أحمد (21 سنة) يعتبر أن " 13 نيسان أتى كرد على اتفاق القاهرة 1969، الذي سمح بتسليح الفصائل الفلسطينية، التي حاولت اتخاذ لبنان كوطن بديل عن وطنها الأصلي، ومن بعدها انقسمت أحزاب لبنان وحملت السلاح، وكان كل حزب مدعوما من دولة". ويتابع مستنداً إلى قراءاته الإلكترونية في تاريخ الحرب اللبنانية "وانتهت باتفاق الطائف، بعد أن حققت الدول المعنية بالصراع اللبناني – اللبناني مآربها في زرع فتيل الفتنة في لبنان، وضمنت له أياديَ لبنانية كفيلة بإشعاله بالوقت الذي يتناسب مع مصالحها". مؤكداً بذلك إمكانية أن يعيد التاريخ نفسه في أي لحظة "ما إن تأتي الأوامر من الخارج، وأكبر دليل 7 أيار".
وترى بتول (25 سنة) أن السلاح لا يجر إلا الحرب والدمار والخراب، والحل لا يكون إلا عبر نزع السلاح غير الشرعي من أيادي الأحزاب اللبنانية، وترى بأننا "ما زلنا نعيش تحت رحمة الزناد الذي يُمكن أن يكبس عليه طابور ثالث في أي وقت، طالما أن هناك سلاحا خارج نطاق الدولة". توافقها الرأي جويل (27 سنة) معتبرة أن الحرب الفعلية انتهت ولكن الحرب المعنوية الباردة ما زالت مستمرة وما زالت جمراً تحت الرماد "فأي حرب لا تُعالج نتائجها هي مهيأة للوقوع في أي لحظة، فالمهجّرون لم يعودوا الى بيوتهم، المفقودون لم يرجعوا إلى ذويهم، الطائفية ما زالت مسيطرة، والتدخل الخارجي في لبنان مستمرّ، والأهم أن زعماء الحرب ما زالوا يتحكمون بالبلد ويسيطرون على قراره، ويتصارعون على المناصب القيادية فيه أيضاً".

حرب أعصاب
ويحدثنا ميشال ( 19 سنة) بأن الحرب الاهلية انتهت ولكن ما زلنا نعاني من ترسباتها حتى اليوم، وندفع ثمن أخطاء آبائنا وأجدادنا، فنعيش اليوم حرب أعصاب، وحرب لقمة العيش". أما ملاك (29 سنة) فتفضّل عدم الخوض في الحديث عن الحرب الأهلية مختصرة كلامها بـ"صار اللي صار، المهم ما تنعاد، والأهم إنو يكون الشعب اللبناني تأكد من إنو بالحرب الكل خسرانين".
إلا أن غسان (22 سنة) ينظر إلى الحرب الأهلية على أنها "رد فعل مقاوم على مشروع صهيوسوري في لبنان، بهدف خلق توازن إسلامي – مسيحي ، تم استغلاله في ما بعد لمصالح إقليمية ودولية"، ويضيف غسان الذي استقى معلوماته من والده الذي خبر الحرب بأن "تقليص صلاحيات الموارنة الكبيرة التي تملكوها ايام الانتداب الفرنسي، كان أحد أهداف الحرب أيضاً".

التعابير الطائفية
وإذا ما بحثنا في مصطلحات الحرب الأهلية وتعابيرها، فنرى بأنها ما زالت تُستحضر على ألسنة اللبنانيين، إمّا من باب المزاح، أو العفوية، إلا أنها وسواها من التعابير الطائفية، خفّت في المجتمع اللبناني وذلك "عبر الاختلاط الطبيعي غير المصطنع، الذي يمر عبر العمل والتجارة" كما يؤكّد وزير الداخلية والبلديات الأسبق زياد بارود لـ"البلد".
فـ"لعبة المصالح تجبر المواطن على الابتعاد عن استعمال المصطلحات الطائفية من باب اللياقات والمراعاة المهنية. ويرى بارود بأن الاختلاط الطبيعي الناجم عن الزواج المختلط، وربما الزواج المدني أيضاً، يخفف من اللهجة الطائفية، وكذلك التضامن الإنساني بين الناس يعزز الاختلاط، وبالتالي يخفف من المصطلحات والتعابير الطائفية".
وتقع المسؤولية على "الاحزاب، الدولة عبر مناهجها التربوية، وكذلك تربية الأهل، فلا ينبغي أن نربي أطفالنا على نازية من نوع آخر، نازية طائفية".

أخطاء كبيرة
ويرى بارود بأن قانون العفو الذي صدر بعد انتهاء الحرب، كان من أكبر الأخطاء، التي حصلت في لبنان بعد الحرب الأهلية، إذ قام على مبدأ "إذا كنت مواطنا لبنانيا عاديا وفعلت جريمة لا يتم إعفاؤك، أما اذا كنت مواطنا سياسيا فعفا الله عمّا مضى"، ومن الأخطاء أيضاً عدم العمل على الذاكرة اللبنانية في موضوع الحرب الأهلية، فـ"في موضوع الإعمار مثلاً كان من الضروري ترك جزء من الأضرار لتبقى شاهدة على الحرب، لتتعلم الأجيال القادمة منها، وتستخلص العِبر، وتدرك حجم الدمار الذي يمكن أن تصنعه الحروب".

على فوهّة البندقية
إذاً اليوم وبعد أربعين عاما، نقف على أطلال متاريسَ "شرقية" و"غربية" صمّمت خارج لبنان، ووُجهت إلى صدور اللبنانيين بأيادٍ. أما الجراح فلم تندمل بعد، وربّما لن تندمل، كون الأحزاب المسيطرة على لبنان اليوم، هي نفسها الأحزاب التي كانت خناجر مريرة قطّعت أوصال الوطن وحولته إلى دويلات تستمرّ بالتناحر حتى الآن.
أما وطن الأرز، فما زال مصلوباً على خط النار، ولن تكون له قيامة إلا إذا استطاع أن يخلق جيلاً سياسيّاً جديداً، بعيداً عن أيادٍ تلطّخت بدماء الشعب اللبناني وتاجرت بأرواحه. وإلى ذلك الوقت، تضمحلّ الأحلام على فوهّة البندقية، يوماً بعد يوم، بفعل الإنقسامات السياسية والمذهبية التي تشير إلى إمكانية إعادة التجربة المشؤومة، وبخاصّة بأن زعماء هذه التجربة ما زالوا في مراكز القرار.