خلال 10 سنوات، ضبطت الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية 140 حالة تصدير لركام معدني ملوث بمصادر مشعة. وضبطت في 8 سنوات نحو 30 حالة استيراد لبضائع ملوثة بالإشعاعات. الفضائح الأخيرة التي كشفها وزير المال علي حسن خليل سلطت الضوء على خطر التلوث الإشعاعي، ومدى جهوزية لبنان للتعامل مع هذه المخاطر. وتلفت المصادر إلى أن هدف الحملة هو الضغط على الجمارك من أجل التأكد من إعادة تصدير البضائع الملوثة والتشدد في مراقبة الحدود.

 

في 5 كانون الثاني الماضي، كشف وزير المال علي حسن خليل عن ضبط معدات صناعية وأوان منزلية مطبخية في مرفأ بيروت ومطار بيروت الدولي، مستوردة من الهند، تحوي إشعاعات خطيرة جداً من مادة الكوبالت المشعCO 60. أثار الأمر حالة من القلق لدى اللبنانيين وتعالت أصوات تدعو الى إعلان حالة الطوارئ. قد تكون قضية الإشعاعات جديدة على اللبنانيين، في حين أن ظاهرتَي الفساد والفوضى متجذرتان "وأي أمر ممكن أن يحصل"، وهذا ما يبرر القلق منذ الإعلان عن كشف بضائع ملوثة بالإشعاعات.

 

ما زاد من هذا القلق هو الكشف عن كميات كبيرة من الركام المعدني الملوث بالإشعاعات دخل الى لبنان بطرق غير شرعية.

 

مع فتح هذه الملفات، اكتشف اللبنانيون أنه يوجد في البلد مركز بحث رسمي يهتم بالطاقة الذرية، وهو أمر شكّل صدمة لهم بقدر صدمة البضائع المشعة! كان هذا المركز يعمل منذ تأسيسه عام 1996 من قبل المجلس الوطني للبحوث العلمية، على إيجاد البنى التقنية والتشريعية لرقابة وتنظيم قطاع استخدام الأشعة في لبنان، ليدخل منذ 10 سنوات في عملية الرقابة الإشعاعية على البضائع المستوردة والمصدرة. قد يدفع ذلك الى "الاطمئنان" قليلاً من وجود حارس «ذي طابع علمي» على المعابر الحدودية الشرعية، ولكن ماذا عن المعابر غير الشرعية ومنافذ التهريب المفتوحة على المعابر الشرعية؟ وماذا عن الفترة التي سبقت وجود هذا الحارس؟ ما الذي يمكن أن يكون موجوداً في البلاد؟

 

اكتشاف 140 حالة تصدير

خلال السنوات العشر الأخيرة، ضبطت الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية 140 حالة تصدير لركام معدني ملوث بمصادر مشعة، وفق ما أعلنه الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية الدكتور معين حمزة ومدير الهيئة الدكتور بلال نصولي. يعتبر هذا الرقم مرتفعاً، وخصوصاً أن كميات الركام المضبوطة هائلة ولا يمكن أن تكون من داخل لبنان، ما يعني أن عمليات التهريب قائمة بشكل قوي. يؤكد نصولي أنّ 90% من هذه الحالات أتت إثر تدمير العراق وكانت تحوي نسبة كبيرة من الإشعاعات نتيجة تدمير المستشفيات أو المختبرات التي تضم أجهزة ومواد مشعة. معظم الركام المعدني الذي يخرج من لبنان يُصدّر الى الهند والصين وبنغلادش وغيرها من الدول لإعادة التدوير والتصنيع. يلفت نصولي إلى أن الهيئة تجد كل فترة مادة مشعة داخل الركام المعد للتصدير، فتقوم بسحب الكميات وتخزينها في مستودعاتها لمنع التاجر من رميها أو استخدامها في لبنان، على أن تقوم بمعالجتها. في الوضع الحالي، لا تشكّل هذه المواد خطراً، لكن تفاقم عمليات التهريب يمكن أن يؤدي الى مشكلة.

 

لمّح خليل سابقاً إلى إدخال كميات من الحديد الملوث بإشعاعات ناجمة عن كارثة "تشيرنوبيل" منذ عام 1986، كما ترددت أحاديث كثيرة عن دفن مواد مشعة ونفايات سامة في لبنان.

 

يؤكد نصولي أنه "لا يمكن معرفة إذا ما دُفنت أي مواد مشعة في لبنان ما لم يتم تحديد مواقع دقيقة للكشف عليها، بدأت الهيئة بمسح التربة الطبيعية لكشف الإشعاعات، والنتائج في النقاط التي بحثنا فيها أتت جيدة". البضائع التي أعلن خليل عن ضبطها في المرفأ والمطار ليست أوّل حالات يتم الكشف عنها، إنما هي جزء من 30 حالة تمّ رصدها خلال 8 سنوات، 12 منها ضُبطت جراء تلوثها بإشعاعات ناجمة عن كارثة "فوكوشيما" عام 2011، وفق ما يؤكد نصولي. يضيف إنه في العالم كله تم رصد 18 ألف حالة خلال 10 سنوات، ما يعني أن الحديث عن 30 حالة هو رقم طبيعي في التداول، إلا أن دخول حالة واحدة يعدّ خطراً. يؤكد نصولي أننا لسنا الوحيدين، إذ هناك أكثر من 40 حادثة من هذا النوع تُسجل يومياً في مختلف أرجاء العالم. تشير مصادر إلى أن حملة وزير المال اليوم ليس هدفها التأكد من كفاءات الهيئة في هذا المجال، وإنما التأكد من أن المواد التي يظهر أنها ملوثة تعاد الى بلد المنشأ والضغط على الجمارك لعدم التهاون في هذا الموضوع وضبط عمليات التهريب.

 

لا حاجة لإعلان الطوارئ

يهمّ حمزة أن يوضح في موضوع البضائع التي تم ضبطها أنه "لو كان الأمر يتطلب إعلان حالة طوارئ لكنّا أعلناها، إذ إننا الجهة الوحيدة المسؤولة عن الطوارئ الإشعاعية". يشرح نصولي أن المواد المشعة وُجدت في مواد صلبة، مثل السكاكين والشوك وأغطية الهاتف ومواد كهربائية، ما يعني أنها لا تنتشر، إذ إن إشعاعها ينتهي على بعد 80 سنتيمتراً في الهواء، لكن الاحتكاك فيها يؤدي الى ضرر بالخلايا. نتحدث عن حالة طوارئ عندما نجد مواد مشعة في مواد غير صلبة مثل السوائل، الغاز والبودرة لأنه في هذه الحالة يمكن للمواد المشعة أن تنتشر، ما يؤدي ليس فقط الى إعلان حالة طوارئ وإنما إلى إخلاء تام، وهذا الأمر حصل 12 مرة في العالم.

 

يقول نصولي إنه "إذا كان المصدر المشع الموجود في مادة صلبة لا يؤثر بشكل كبير على الشخص، فهذا لا يعني إدخال البضاعة واستعمالها، لأنه ليس من المفروض أن تحوي هذه البضاعة إشعاعات". لا يريد نصولي أن يخلق حالة هلع غير مبرر، وإنما يبغي إعطاء الموضوع حجمه الحقيقي. لذلك يشرح الأمر بطريقة مبسّطة جداً "الإشعاعات ليست مكوّناً طبيعياً في هذه البضائع، وبالتالي هي مكون غريب ولا يجب أن يكون في البضاعة. هل وجود تراب في الشوكولا، ولو بنسبة بسيطة، هو أمر عادي حتى إذا كان لا يشكل خطراً كبيرا؟".

 

مصادر التلوّث الإشعاعي

تتلوث هذه البضاعة من مصادر عدة، يلفت نصولي الى أن أغطية الهواتف التي تبيّن احتواؤها على مادة مشعة، هي بضاعة مصنوعة من مواد نفطية تحتوي على مواد مشعة طبيعية يجب معالجتها قبل تصنيعها. يضيف "وجدنا في الأغطية نسبة عالية جداً من الإشعاعات الطبيعية التي لا يفترض أن تكون موجودة في هذه المادة حتى لو كانت طبيعية. أمّا المواد المشعة في الأدوات الكهربائية فهي ناتجة من إعادة تدوير الركام المعدني".

 

إشكالية أخرى تواجهها الدولة "إشعاعياً»"، تتمثّل في التجهيزات الإشعاعية، أي المعدات التي تطلبها المستشفيات وبعض المصانع وتحتوي على مواد مشعة. يتحدث نصولي اليوم عن 15 مصدراً للكوبالت خارج الخدمة ــ كانت تستخدم إجمالاً لعلاج أمراض السرطان ــ موجودة في مستشفيات لبنان، إلا أن وضعها سليم، إذ تخضع لرقابة الهيئة الدائمة وموضوعة في قالب من الرصاص يمنع تسرب الإشعاعات. كان عدد مصادر الكوبالت سابقاً 18، إلا أن الهيئة بالتعاون مع وكالة الطاقة الذرية تمكنت من سحب 3 مصادر من مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ومستشفى "الجامعة الأميركية" وإعادتها الى بلد المنشأ. وسيتم قريباً سحب مصدرين، واحد من مستشفى "أوتيل ديو" والثاني من مستشفى "المعونات"، وذلك استكمالاً لبرنامج إخراج الكوبالت من لبنان الذي بدأته الهيئة عام 2008. توجد هذه المصادر في 5 مستشفيات فقط وهي عبارة عن تجهيزات إشعاعية قديمة، إما تعطّلت أو فقدت جدواها الطبية. يشدد حمزة على أن هذه الأجهزة ممنوع بيعها أو تداولها بحسب النظام العالمي، وبالتالي يجب إعادتها إلى بلد المنشأ، إلا أن المشكلة اليوم هي أن بعض المصانع أقفلت أو أن الدول المصنعة أصدرت قراراً بعدم استقبال هذه المواد، وبالتالي يجب إجراء مفاوضات مع الدول من أجل إعادتها. في هذه الحالة، تتولى الوكالة الدولية للطاقة الذرية عملية التفاوض والنقل التي تأخذ قرابة السنتين لكل مصدر. ويؤكد حمزة ونصولي أن المستشفيات ملتزمة بشروط الهيئة لحفظ هذه المعدات وعدم بيعها أو رميها، ما يعني أنها لا تشكل خطراً.

 

المشكلة في التهريب

هل لبنان اليوم معرّض لمخاطر دخول بضائع ملوثة؟ يرى حمزة أن لبنان يتّبع الآلية الدولية لضبط الإشعاعات ويعدّ من أكثر الدول انضباطاً، "ليس لدينا أي شكوك في فعالية الآلية، وخاصة إذا كانت جميع البضائع تمر على الحدود الشرعية، أما البضائع المهربة فلا أحد يمكنه أن يعرف ما إذا كانت تحوي إشعاعات أو لا، نحن بحاجة الى ضمانات بشأن عدم حصول تهريب". يشرح حمزة الآلية المستخدمة منذ عام 2005 حين تم تركيب بوابات الكشف الإشعاعي على الحدود البرية، البحرية والجوية بالتعاون مع دول أوروبية والوكالة الدولية للطاقة الذرية.

 

ويضيف حمزة إن "نسبة كبيرة من البضائع المستوردة تمر عبر هذه البوابات والكواشف للتحقق من خلوها من الإشعاعات، إلا أن المشكلة هي في تفاقم كميات الخردة المعدنية المهربة إلى لبنان والتي تحوي مصادر مشعة أو ملوثة بمواد مشعة". إذا تبيّن لعناصر الجمارك وجود قراءات عالية من الإشعاعات يقومون بسحب البضاعة واستدعاء مفتشي الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية للتأكد من القراءات وأخذ عيّنات لتحليلها ومعرفة نوعية الإشعاع. بناءً على نتيجة الفحوصات، تعطي الهيئة توصياتها للجمارك بإدخال البضاعة أو إعادة تصديرها.

 

لا يقتصر عمل الهيئة على الكشف على البضائع، إنما هناك شبكة رصد مبكر للإشعاع بوشر العمل بها منذ 8 أشهر ونتائجها الى اليوم مطمئنة. فالشبكة مؤلفة من 21 محطة موزعة على المناطق الساحلية والجبلية الحدودية، وبشكل كثيف في الجنوب والبقاع الغربي ويتم الاطلاع لحظة بلحظة على جميع المعطيات. ترصد الشبكة نسبة الإشعاعات في الهواء وتحدد نقاط الغبار الإشعاعي ونوعيته ونسبة الخطورة. تدخل هذه الشبكة كجزء من خطة الرد في حالات الطوارئ غير الاعتيادية التي أقرها مجلس الوزراء عام 2011.

 

توصيات حمزة للدولة واضحة "فليقم كل جهاز بواجباته، فليضبطوا الحدود، وليحددوا لنا مركزاً مقبولاً من النواحي الأمنية والبيئية والجيولوجية لاعتماده في تخزين المصادر اليتيمة التي يصعب إخراجها". ويضيف إن هذه المهمات التي يقوم بها المجلس الوطني للبحوث العلمية من خلال الهيئة تتطلب عدداً كبيراً من الاختصاصيين وتحديث دائم لموارده البشرية والمادية. من هنا يطالب حمزة الدولة "بتعزيز إمكانيات المجلس البشرية والمالية، والسماح له بالتعاقد مع خبراء واختصاصيين وفقاً لنظامه".