حتى السبت الماضي، كان الارهاب التكفيري في نظر الكثير من المراقبين في حال انكفاء ودفاع عن النفس وعن المساحات والحدود التي رسمها لنفسه على الساحة اللبنانية ابان الاعوام الاربعة التي انقضت على اشتعال المواجهات في سوريا.

 

لكن جريمة تفجير جبل محسن المدوّية حملت في طياتها رسالة جلية من هذا الارهاب فحواها انه عاد ليكون في موقع المهاجم والمبادر، اي انه عاد الى قواعده السابقة ولعبته السالفة. وعليه فان السؤال المطروح بات من الان فصاعدا: هل ما زال في مقدور هذا الارهاب المحترف والفالت من عقاله والذي يشتغل بعقلية مَن يمتلك مشروعا متكاملا ذا تفاصيل فضفاضة وعناوين عريضة ان يعود من بوابة جبل العلويين الفقراء في عاصمة الشمال سيرته الاولى مسترداً زخمه السابق وتأثيراته على الساحة اللبنانية؟

 

لا ريب في ان ما حصل في جبل محسن هو اول اختبار عملي يجريه الارهاب في حرب صراع الارادات التي يخوضها منذ زمن مع لبنان بعد النجاح المدوّي لعملية الجيش في الشمال في اواسط الصيف الماضي، والتي بدأت في بلدة بحنين في الضنية لتمتد لاحقا الى قلب طرابلس، وهي عمليات جسورة اخترقت حواجز ومساحات لم تكن الدولة تجرؤ سابقا على التفكير في التمدد اليها، وفككت خلايا وبؤرا ارهابية خالت حتى ذلك الوقت انها في مأمن وفي عاصم من اي ملاحقة او رصد مما اضطر بعض رموزها الخطيرين الى التخفي والى ان تصير شريدة تلوذ بحمى بعض الجهات. وانتهت تلك العمليات باسقاط اي احتمال ممكن لان يقيم الارهاب دولته او امارته في الشمال، وفق ما قدّرت قيادة الجيش وما حذرت منه اجهزة استخبارات غربية.

 

يوم مُني الارهاب بتلك الخسارة في الشمال كان تنظيم "داعش" يحرز تقدما نوعيا في العراق بدأ من احتلال الموصل ثانية مدن بلاد الرافدين، وقد عاش عندها الارهاب عموما حالة زهو وثقة بالنفس عالية خصوصا بعدما ضمن السيطرة على نحو 200 الف كيلومتر مربع من اراضي العراق وسوريا معا. لذا عدّ فعل المؤسسة العسكرية اللبنانية في الشمال وقتذاك بمثابة تطور نوعي دراماتيكي، خصوصا انه اتى بعد ايام قليلة على نكسة مُني بها الجيش في عرسال وجرودها صارت معروفة الظروف والتفاصيل. وعمليا ثمة من وجد ان هذا الفعل ينطوي على امرين اثنين: الثأر لتلك النكسة، والاعلان عن بدء هجوم مضاد واسع النطاق على الارهاب وجذوره وبيئاته وبؤره في كل لبنان تحت عنوان انه محظر على هذا الارهاب المنتشي والمزهو بمكاسبه السريعة ان يضع الساحة اللبنانية في قبضته لأن لهذه الساحة رعاة يرعونها ورباً يحميها.

 

واذا كانت عملية الشمال بنتائجها ووقائعها قد اعادت الى الدولة هيبتها الامنية والسياسية التي تهاوت في مراحل ومحطات عدة، فانها اعادت ايضا في الوقت نفسه انتاج شرعية لقوى سياسية معينة على الساحة بدت في السابق وكأنها خاضعة لارادة المجموعات المسلحة التي بسطت سطوتها على الشارع الشمالي وتحركت فيه بحرية الى درجة انها راحت تصفّي بعض عناصر الجيش وهم يعبرون الطرق الى مراكزهم، واظهرت في الوقت عينه ان ثمة توجها جديدا لهذه القوى عنوانه العريض الوقوف نديا وعمليا في وجه الارهاب بنسخه المتعددة وبشهيته المفتوحة على التمدد، وهو من الاسباب التي دفعتها لاحقا الى فتح ابواب الحوار مع "حزب الله" طيا لصفحة ماضية وفاتحة لمقاربات مختلفة تقطع مع اعوام خمسة عجاف سمتها الاساسية القطيعة والتوتير.

 

وبناء على كل هذه المعطيات والوقائع، يبلغ الارهاب من خلال ضربته الموجعة واللئيمة في جبل محسن من يعنيهم الامر، انه يدشن للتو مرحلة جديدة في التعامل مع الساحة اللبنانية ومكوناتها ومعادلاتها، من سماتها وعناوينها:

 

- على المستوى العسكري، تنفيذ نموذجي لمفهوم الحزام الناسف المزدوج الذي يجرب للمرة الاولى في لبنان في محاولة جلية لاعادة عقارب الساعة الى عهد العمليات الانتحارية الارهابية التي نفذت تكرارا في السابق في الضاحية الجنوبية والهرمل وضهر البيدر، وهو عهد استمر اكثر من عام وفعل فعله وارخى تداعياته الثقيلة الوطأة على امتداد الساحة اللبنانية. والجديد في المشهد الابوكاليبسي ان الارهاب يعتمد هذه المرة ادوات وتكتيكات بسيطة لا تحتاج الى تفخيخ سيارات في الخارج والى خريطة طريق لايصالها الى الهدف المنشود.

 

- ان عملية جبل محسن كشفت امرين: الاول انه ما زال بامكان الارهاب بمختلف استنساخاته ان يجد له موطئ قدم وبيئة حاضنة وان يجند انتحاريين وان ينظم خلايا نائمة تستيقظ غب الطلب.

 

- ان الارهاب يتكئ على احترافية عالية في قراءة تناقضات الوضع اللبناني، وذلك من خلال اختياره جبل محسن بالذات ليكون محطة اجرامه في محاولة جدية منه لاعادة انتاج لحظة تمت هزيمتها، واستطرادا لاعادة انتاج مناخات فتنوية امتدت اعواما وخلفت نتائج كارثية على جبل المهمشين وعلى احياء الفقراء في طرابلس.

 

- تزامنت العملية مع حيوية الحوار الجدي الذي انطلق اخيرا بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، والذي انتج مناخات ورهانات واحتمالات جديدة مريحة، مما دفع مراقبين الى اعتبار التفجير الانتحاري الاخير وكأنه خط اعتراض خفي على المسار الحواري النامي بتؤدة في البلاد.

 

وعليه، فإن الارهاب يبعث برسائل جوهرها انه يأبى مبارحة الساحة رغم تغير المعادلات وتحول المناخات التي كانت تظلل هذا الارهاب في السابق وتشكل له حبل سرة. وعموما فان الارهاب بعث بهذه الرسالة الدموية وهو يترصد رد الفعل عليه ليبني على الشيء مقتضاه ويشرع في خطواته التالية وضرباته المقبلة. ولعل طلائع هذه الردود تمثّل بالخطوة المتأخرة عن موعد تنفيذها نحو 3 اعوام والمتجسدة بإزالة امارة الارهاب الآمرة الناهية في سجن رومية، وهي تنطوي ايضا على رد من شريحة سياسية مضطرة تأكيد مضيها قدما في نهجها المستجد في مواجهة الارهاب.

 

وفي الخلاصة ان ما شهده الجبل الفقير على كتف طرابلس هو محطة لحرب الارادات بين الارهاب ولبنان، وهي لن تكون الاخيرة. والثابت ان هناك اجماعا على رفض مطلق لاي وضع يعيد هذه الساحة الى ما كانت عليه قبل عام حيث كان الارهاب يعتبر نفسه شريكا في معادلات الداخل اللبناني شرط الا تتكرر لعبة تبرئة "النصرة" وتوجيه اصابع الاتهام حصرا الى "داعش"، فكلاهما شريك بالمقدار نفسه في سفك الدماء وفي خطف العسكريين.