لو استطعتُ، لدعوتُ الناس، وخصوصاً منهم شعراء الحياة، إلى التخلّي – ليوم واحد - عن كلّ شيء، بهدف البحث عن السعادة، التي لا تريد شيئاً في ذاته، والتي – رجاء الانتباه - قد تكون مخبّأة في كتاب، في رغيف خبز، في عينَي ولد تائه، في غيمة، في نظرة، أو... في الطريق إلى هاوية مستلَذَّة.  

لو استطعتُ، لَرميتُ الكتابة، لا كتابة الشعر والأدب بالطبع، بل تحديداً الكتابة في الشأن العام. ولَجعلْتُها داخل قفص، ولأَغلقْتُ الباب عليها إغلاقاً محكماً، ولاَنصرفْتُ إلى حفر الباطن الشخصي، ومخاطبة هواجس الهواء والعصافير، باللغة التي يمكنني من خلالها أن أكون جناحاً وريشةً، لا مرآةً، ولا سلطة.

لماذا؟ لأنه، ينبغي لنا أن نعرف أن الحياة ليست كلّها وقفاً على الشأن العام، وترّهاته، بل هي خصوصاً حياة شخصية، فردية، موجودة في "مكان آخر"، هو المكان الذي من واجباتنا أن نحميه، وأن نصونه، وأن نجعله في منأىً من ميليشيات الحياة العامة وإرهاباتها المرئية وغير المرئية.

هذا ما يفعله الآن، الشخص الهاشل في التيه الشخصي، مستقيلاً لساعاتٍ معدودات، من مسؤوليات تعرية أكاذيب الشأن العام، و"التنكيل" الأخلاقي والمعنوي بأبطاله، يقيناً منه أن الخلاص الأعمق هو "الخلاص" الشعري المتعمشق بقرع طبول القلب، حين تُصِمّ آذانها عن سماع عربدات السياسيين، ومواعظ رجال الدين في الأخلاق، ومواهب أصحاب الأموال وتجّار الشعوب، لتُنصت فقط إلى الأوركسترا الكونية التي يعزفها الفقراء والعشّاق والشعراء والطبيعة وأهل الفطرة الخلاّقة.

هذا من شأنه أن يمنح الهاشل صفة الشخص الذي ينصاع للغيوم، أو الذي تنصاع له الغيوم، فيصير على غرارها، أثيرياً، متحوّلاً، خفيفاً، متلاعباً، ومتخذاً أشكالاً لا يمكن القبض عليها، ولا حصرها في صلافة الواقع وفجاجته.

لا هرباً من الواقع، بل بحثاً عمّا تحته.

عمّا وراء. هذا يتطلّب قوةً روحية، كالتي يجب أن يستدعيها المرء في لحظات الحيوية القلبية، فيترك كلّ شيء، نعم كلّ شيء، ليصفّق لهطول المطر، أو لموجةٍ تتجاوز الحيّز البحري، لـ"تتعدّى" على الحيّز العام، أو لعبور قوس قزح في عيوننا المغبّشة بالأوجاع.

فلنفعل ذلك الآن. وهنا.

و... ها أنا مستطيعٌ حقاً، وقد هرعتُ فوراً إلى إغلاق شاشة الكومبيوتر، مستسلماً للهواء الأرعن، للعاصفة التي تستدرج الثلوج إلى علوّ منخفض، لتخفر الأمكنة بخفّة ثعالب الخيال، أو بأناقة الأرانب الوجلة!

أفعل هذا، بجموع جسدي وكياني، لأني أحبّ فعلاً أن أنذر حياتي لأكون ذلك الشخص الذي في مقدوره أن ينتقل ببراعة الشاعر، أو بحنكة اللصّ الظريف، أو الساحر، أو البهلوان، أو العاشق، إلى عرض البحر، أو إلى السهل الوسيع، لإشعال زورق، ولإعداد مأدبةٍ ليست بطعام، بل بجسد!

وإذا كنتُ في هذه اللحظة، أرغب في شيءٍ محدد، فأن أكون خارج الكلمات، سروةً تنحني على شهوة امرأة، لأكون السرير لها. واللحاف. وما يتأوّه من جنون الشتاء تحت سعير الجمر الذي ليس بحسٍّ، بل بالهاجس المستولي على مواهب الكائن جميعه.

لقد كنتُ طوال حياتي الشخصية، مرصوداً لمجونٍ؛ كالذي يتلذّذ بخربطة الوقائع، أسبابها والنتائج، فلا يترك باباً منطقياً للاستنتاج إلاّ جعله مخردَقاً ومكشوفاً أمام نزواتٍ؛ كالتي تأخذ امرأةً بالذات على طرف حبلٍ واهٍ، وتطير بها من هواءٍ إلى هواء، إلى أن يطلع الضوء، فتعود هي، وأعود أنا، كلٌّ منا إلى أشغاله اليومية، ماسحاً بطرف كمّه كونياك الليلة الفائتة وجروح منيّها الكتوم.

* * * لكنْ، هل يستطيع شخصٌ مثلي أن يأخذ فرصةً مما يعتقد أن لا مجال للاستراحة فيه، وإن لغفلةٍ مستحقة؟!

هل يستطيع مَن يتوهّم أنه حارس، إسلاس لعينيه فتتيها في براري الرغبة، ليذهب، هو، تحت جنح الجوع إلى حيث يزداد جوعاً وإحساساً بأن لا شبع، مهما حاول أن يُسكت جوع رغبته اللاحدود له؟!

بودّي لو يكون في مقدوري أن أُوقف – لساعاتٍ فحسب – هذه المهزلة الكونية، داعياً قرّاء "الملحق" إلى المشاركة، كعازفات وعازفين، كمنشدات ومنشدين، في الأوركسترا التي تنتصر على إرهاب الأمر الواقع وجنوده وهو، أولاً وأخيراً، إرهاب العقل العربي ومسلّماته الغيبية المسدودة الأفق. فليسامحْني القرّاء، لأني قد أكون أشوّش عليهم مشاغلهم، وإيقاعات الحياة اليومية الآخذة مجراها، في خضمّ وقائعنا اللبنانية والعربية، التي تجعلنا محض بيادق ودمى، فوق رقعة الشطرنج القاتلة.

* * * وإذ أعود من تيه الشخص الهاشل في براري ذاته، إلى مقتضيات المسؤولية الثقافية والإعلامية (والأخلاقية) التاريخية، التي أخذها "الملحق" على نفسه، والتي – مرةً أخرى – تتباهى بحريتها "المقلقة" و"المزعجة"، التي تقضّ بمعاييرها

القيمية الصارمة مضاجع سلاطين الدين والدنيا، وهم الطواويس "العبيد" والمنتهزون وسُرّاق مواهب الروح (القدس!) والقتلة واللصوص والتجّار والقطعان وأهل الحقارات الصغيرة مطلقاً، مثلما تتباهى بأنها "حصرمة" في عيون أجواق المستبدّين والإرهابيين والأزلام والمستزلمين والزعران والمرتشين، نضع بين أيدي القرّاء، البحث الفلسفي الجريء الذي يلي هذه الافتتاحية، حاملاً توقيع الأستاذ الفيلسوف مشير باسيل عون، القائل باستحالة "الربيع العربي" فلسفياً، لأنه، على رأيه، يستحيل على العرب – ولا تعميم - أن يرضخوا لأحكام الفلسفة العقلية، وموازينها، ومعاييرها. لن أكيل الأوصاف لهذا البحث، فهو قادرٌ، بأفكاره التي تمس جوهر العقل، على أن يحظى بالمكانة التي يستحقها،

وعلى شقّ طريقه إلى عقول النخبة اللبنانية والعربية، وخصوصاً منها المهتمة بمسألة الأنظمة والانتفاضات والثورات العربية. لكنْ، يهمّني بقوة، أن ألفت إلى حقيقة أن لـ"الملحق"، ولكتّابه، ولزوّاره، وخصوصاً منهم المثقفين الباحثين، المكافحين والمناضلين من أجل الحرية في سوريا خصوصاً وفي العالم العربي، آراء متشعبة ومتنوعة، في مثل هذا البحث وأشقائه، وقد تكون مختلفة معه، سبق لهذه الصفحات أن عرضتها، ولا سيما في ما يتعلق بما اصطلح على تسميته "الربيع العربي". لكم، يا قرّاء "الملحق" الأعزاء، أن تُعمِلوا عقولكم في هذا البحث، برويّة طلاّب المعرفة العقلية، كما عوّدتمونا، تحليلاً ونقداً. فلأمزجة الغوغاء وأهل الغرائز وقطعان الأحكام المسبقة، مواقع ومنابر أخرى، لا هذا الموقع والمنبر. لعلّ البحث هذا، يكون مادةً للمناقشة والمساءلة في أحوالنا الشرقية. وإذا كان يقسو قسوةً معرفية وفلسفية على "الربيع العربي"، فذلك، على ما أعتقد، بيقين، من باب التفكيك البنيوي لمكوّنات الحياة العربية ومعوقاتها وتابوهاتها المتجذرة، لا من باب إطلاق الأحكام على الأفكار والأحلام والأحرار الذين لا يزالون يواصلون كسر شوكة الظلامَين الاستبدادي والتكفيري، بشجاعة وبمواهب نادرة، من خلال جمرات أفكارهم ودمائهم الزكية. لقد كان "الملحق" طوال الأعوام الفائتة خصوصاً، كما طوال تاريخه، بيتاً لهؤلاء الذين نذروا حيواتهم وأقلامهم من أجل دكّ معاقل الطغيان والاستبداد، وهو لن يتخلّى عن هذه المهمة، لأنها تندرج في جوهر وجوده. لهؤلاء خصوصاً تحية إكبار وإجلال. إنهم شعراء حياتنا التي تأبى أن تكون رهينة الاستبداد العربي وفريسته. * * *       ليس مثل الحلم يركّع الاستبداد. ويمرّغه. لن يستطيع سلطانٌ ديني ولا دنيوي، ولا ظلامٌ عقلي، كما لن يستطيع مستبدٌّ عربي، أكان من أهل الأنظمة الجائرة أم من أهل التكفير الديني، أن يتسلل إلى أرض الحلم، ولا أن يستولي عليها. إنها الأرض الشقية المتمردة العاصية، التي تُعزَف فوقها أوركسترا الحبّ والأمل والحرية. فلنجعلْها أرضنا اللبنانية والعربية بامتياز!

 

 

الكاتب:عقل العويط