ظهرت حالات من التطرف في القرن العشرين أخذت شكلاً فكرياً - سياسياً، مثل النازية عند هتلر والنزعة الجهادية التكفيرية عند سيد قطب: يلاحظ في الحالين أنهما رد فعل مضاد، عند هتلر على الهزيمة الألمانية في الحرب العالمية الأولى وما أعقبها من عقوبات على ألمانيا فرضها المنتصرون عبر مؤتمر فرساي، ولدى سيد قطب كرد فعل على الاضطهاد الذي لاقاه في السجن زمن عبد الناصر وهو تطرف لا نجده في كتابات قطب قبل عام 1954 ولا عند مؤسس حركة «الإخوان» حسن البنا. نجد لدى هتلر وقطب، بالترافق مع التطرف، نزعة نخبوية استعلائية تأخذ عند هتلر شكل «عنصرية عرقية» ولدى قطب «طليعة مؤمنة»، وهو ما يتزامن عندهما مع نظرة عرقية احتقارية للقوميات الأخرى لدى هتلر ونظرة تكفيرية لغير المسلمين وللمسلمين الآخرين الذين يختلفون أو يتغايرون مع نظرة قطب للإسلام. لا نجد لديهما أيديولوجية بنائية بل واحدة رفضية تنبني بدلالة الرفض والتغاير مع الآخر المضاد. في التاريخ الإسلامي يمكن أن تكون أقرب حالة لسيد قطب هي حالة «الخوارج» الذين انبنى فكرهم على رفض حالتي علي ومعاوية في مرحلة ما بعد تحكيم معركة صفين عام 37 للهجرة، وهم أول من قال بتكفير المسلمين الآخرين وطرحوا اشكالية لم تكن موجودة قبلهم عند المسلمين هي مسألة: «من هو المؤمن؟».

عند السنة والشيعة لا تبنى الرؤية الخاصة من خلال رفض الآخر بل بمعزل عنه، ولكن بالوقت نفسه تختلف معه وتتغاير، ولكنها في اختلافها تكون مبنية على رؤية خاصة للكون والعالم والمجتمع والفرد. من هنا كان التقليديون والأصوليون عند السنة والشيعة غير متطرفين، وهو ما يجعل إمكانية التلاقي ممكنة عندهم، كما رأينا مثلاً في تلاقي المرجع الشيعي التقليدي محسن الحكيم (توفي عام 1970)، والآن السيستاني، مع السنة التقليديين، وفي تلاقي الأصولية الإخوانية مع أصولية الخميني وخامنئي، في كثير من القضايا، حيث بغض النظر عن إعجاب خامنئي وترجمته لكتب قطب فإن تلاقيه وأستاذه الخميني يبقى أساساً مع فكر حسن البنا.

هنا، من اللافت للنظر أن الانتقال من الأصولية الإخوانية إلى النزعة الجهادية التكفيرية لسيد قطب كان يتم من خلال حالة رد فعل مضاد متطرف، كما رأينا عند الشيخ مروان حديد في سورية حين أسس «تنظيم الطليعة» عام 1975 كرد فعل على نظام حزب البعث، وهو ما لا نجده عند المراقب العام للجماعة الإخوانية السورية الشيخ مصطفى السباعي في الأربعينات والخمسينات، المشهور باعتداله، سواء في أزمة دستور عام 1950 أو تجاه فترة حكم وحدة 1958-1961 لما رفض الانجرار وراء خصومة «الإخوان» في القاهرة مع عبدالناصر.

عند بن لادن والظواهري كان تطرفهما رد فعل، ولكن ممزوجاً مع نزعة جهادية أتتهما من سيد قطب مباشرة للظواهري، وبواسطة عبدالله عزام إلى بن لادن، وفي البداية كانت هذه النزعة الجهادية الممزوجة بالتطرف عند بن لادن موجهة ضد السوفيات في أفغانستان، وعند الظواهري ضد نظامي السادات ومبارك في القاهرة، ثم تحولت عندهما في شباط (فبراير) 1998 مع تأسيسهما «تنظيم قاعدة الجهاد» لتكون ضد واشنطن، باعتبار الأخيرة عندهما «رأس الأفعى». بغض النظر عن عملية 11 سبتمبر 2001 التي قامت بها «القاعدة»، وتصدرت عبرها واجهة الأخبار العالمية، فإن امتدادها الحقيقي الاجتماعي كان من خلال عراق ما بعد صدام حسين عندما أحس سنة العراق العرب بالتهميش الطائفي، من خلال طائفية سياسية مضادة كانت عنواناً لتمييز اقتصادي - اجتماعي - ثقافي مارسته الأحزاب الشيعية التي تصدرت واجهة السلطة في بغداد عقب الغزو والاحتلال الأميركي، حيث كانت «القاعدة»، وهي أقوى الفصائل العسكرية غير الحكومية في مرحلة ما بعد 9 نيسان (ابريل) 2003 يوم سقوط بغداد، عنواناً ومكاناً لتطرّف لجأت إليه غالبية اجتماعية من سنّة العراق العرب رداً على التحالف الأميركي - الإيراني الذي ظلّل غزو العراق واحتلاله وبعدهما أتى بالقوى الشيعية المحلية للسلطة في بغداد، ثم تمت ولادة (دولة العراق الإسلامية) عام 2006 من رحم (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين) الذي أسسه الزرقاوي عام 2004، ثم «الدولة الإسلامية في العراق والشام: داعش» في 2013، ثم «دولة الخلافة الإسلامية» في 2014. هنا، يأتي التطرف كرد فعل طائفي، في الفكر السياسي ثم في الممارسة، ضد هيمنة طائفية تشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.

لا يزرع الموز في تربة السويد بل في بناما والإكوادور: كانت طائفية صدام حسين في النصف الثاني والأخير من عهده ضد الشيعة واضطهاده القومي للأكراد سبباً لتصدر الأحزاب الإسلامية الشيعية وحزبَي بارزاني وطالباني واجهة المعارضة العراقية في فترة 1980-2003 بعد أن كان الحزب الشيوعي العراقي في فترة 1958-1970 أقوى الأحزاب في الوسطين الشيعي والكردي. وكما أنتج صدام حسين مضاداته المماثلة أنتجت طائفية سلطة عراق ما بعد صدام حسين الشيعية طائفية تطرفية سنية مضادة تم فيها تجاوز «الحزب الإسلامي» باعتباره وعاء، وهو الذي يمثل الفرع العراقي الإخواني، لا يملك الترياق المضاد، وليس صدفة أن أبو بكر البغدادي قد بدأ اخوانياً ثم اتجه للتطرّف في مرحلة ما بعد 9 نيسان 2003.

في هذه المقاربة لظاهرة التطرف، من الواضح الاقتصار على العوامل السياسية - الاقتصادية - الاجتماعية المسببة لظهور هذه الظاهرة ونموّها: هل يمكن هنا البحث عن المسبّبات الثقافية، على طراز ما فعل جورج لوكاتش في الخمسينات بكتابه «تحطيم العقل» عندما درس المسار الثقافي الألماني الذي أنتج هتلر والنازية عبر اتجاهات فلسفية - فكرية - ثقافية لاعقلانية على مدار قرنين سابقين؟

محمد سعيد رصاص