لم يعد العسكريون وحدهم مخطوفين في جرود عرسال لدى "داعش" و"النصرة"، بل باتت إرادة الدولة أيضا رهينة محتجزة في جرود الابتزاز والتردد وسوء الادارة وتضارب الأدوار والمصالح.

ولعل الخطأ الاكبر الذي ارتكبه المعنيون بهذا الملف هو الخضوع منذ بداية الازمة للعبة الابتزاز، على حد السكين، ما كسر التوازن في قواعد التفاوض من الاساس، وفتح شهية الخاطفين على الذهاب بعيدا في هذه اللعبة، وصولا الى انتزاع التسهيلات والتنازلات تباعا من الجانب اللبناني المتخبط والمرتبك.

وبدل ان تُراكم الدولة اللبنانية عناصر القوة مع الوقت، لتحسين شروط التفاوض والمقايضة، راحت تفرّط بها تباعا وبخفة لامتناهية، بفعل سوء الآداء وتعدد المرجعيات، وربما لم يُعرف سابقا ان خاطفين إرهابيين نالوا امتيازات كتلك التي حصل عليها خاطفو العسكريين بالتهديد والوعيد من بعض الاطراف الرسمية.

وأخطر ما في هذا الملف هو ان إدارته تبدو مبعثرة ومشتتة، وتكاد تخضع لقاعدة المحاصصة، بحيث ان الطوائف والمذاهب التي ينتمي اليها العسكريون المخطوفون باتت شريكة في التفاوض، وتملك اسهما في الملف، تمنحها حق النقض (الفيتو) في تجاوز لحق إبداء الرأي الى التصرف وفق منظومة مصالحها..

وليس خافيا ان الاهالي كذلك، تحوّلوا تحت تأثير العامل العاطفي، الى "خاصرة رخوة" في جسم الدولة، يصل من خلالها نفوذ الخاطفين وتأثيرهم الى الصيفي وساحة رياض الصلح، حتى أصبح هناك فرع لغرفة التحكم المروري في جرود عرسال.

وإذا كان البعض يعتبر ان التواصل مع الخاطفين عبر "البريد السريع" او "الخط العسكري" أجدى في انتاجيته من الاقنية الاخرى، لاسيما ان المسافة الفاصلة بين بيروت وجرود عرسال هي اقصر بكثير من المسافة بين الدوحة وجرود السلسلة الشرقية.. إلا ان هذا الخيار او غيره، لا يعفي، وفق "السفير"، من طرح أسئلة ملحّة من نوع:

طالما أن الكل يقرّ بمبدأ المقايضة والتبادل، فكيف للتفاوض، سواء حصل بطريقة مباشرة او غير مباشرة، ان يؤدي الى استعادة المخطوفين بطريقة تحافظ على حد أدنى من الكرامة الوطنية والضرورات الامنية، ولبنان مجرد من كل أوراق القوة ومثقل بنقاط الضعف المكشوفة التي يحسن الخاطفون استثمارها والتلاعب بها؟

وإذا كانت سوريا هي الممر الإلزامي لنجاح أية عملية تفاوض بعدما أصبحت السجينات السوريات جزءا من اية صفقة مفترضة، فهل ان هذا النمط من التعاطي اللبناني الرخو مع الجهات الخاطفة يشجع دمشق على المضي قدماً في التعاون ام انه قد يدفعها الى إعادة النظر في التجاوب المبدئي مع طلب المساعدة اللبنانية، والذي كانت قد أبلغته للمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم عندما استقبلته أخيراً؟
ما هي مصلحة السلطات السورية في ابرام صفقة لمصلحة هكذا ادارة سياسية للملف لبنانيا وخصوصا عندما ينبري من يدعو الى دعم "النصرة" ونزع صفة الارهاب عنها لا بل التعامل معها بوصفها تشكل العمود الفقري للمعارضة السورية؟

أين تكمن المصلحة الوطنية في هذه التخمة من الطباخين، على تعدد أهوائهم وهوياتهم، بدل ان يبقى الملف محصورا في يد المكلف رسميا بمتابعته، اللواء ابراهيم صاحب الخبرة والتجربة في فك شيفرات قضايا الخطف وفي مساومة رموزها بأقل الخسائر الممكنة؟

لماذا غاب اللواء ابراهيم عن اجتماع خلية الأزمة، أمس، وهل صحيح أنه أبلغ رئيس الحكومة تمام سلام قراره بالتنحي عن هذا الملف نهائيا في ضوء استمرار سياسة الارتجال والتخبط والارتباك والابتزاز وتعدد القنوات والمرجعيات؟

هل يحمل اعتكاف ابراهيم في طياته احتجاجا ضمنيا على الادارة الخاطئة، خصوصا أن الفريق الذي يزايد تاريخيا بمنطق الدولة، قرّر أن يتعامل مع الملف بطريقة ميليشيوية لا بل وفق أدبيات مذهبية وطائفية، سهّلت الى حد كبير ابتزاز الدولة، ومن قال أنه بهكذا ادارة يمكن أن يطلق سراح بعض العسكريين من لون مذهبي معين، لا بل من يضمن أن الخاطفين سيفرجون عن هؤلاء تحديدا الا عندما يطوى الملف نهائيا؟

هل صحيح ان "النصرة" و"داعش" وجدوا في الاستمرار باحتجاز بعض العسكريين ورقة ابتزاز سياسية لوليد جنبلاط، حتى ان البعض ذهب من باب التهكم الى القول إن الجهات الخاطفة باتت تتحكم بمصير الحكومة لانها قادرة على دفع بعض وزرائها الى الاستقالة، إذا أرادت ذلك؟