يعزّ‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬السيد‭ ‬هاني‭ ‬فحص‭ ‬بعد‭ ‬رحيله‭ ‬وأنا‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أنتظر،‭ ‬أدباً‭ ‬أو‭ ‬شعراً‭ ‬أو‭ ‬حتّى‭ ‬مقالةً‭ ‬سياسيةً،‭ ‬لأُقدم‭ ‬عليها‭ ‬بنهمٍ‭ ‬كأنّي‭ ‬ألتقيه‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬النص،‭ ‬وكأنّه‭ ‬يخاطبني‭ ‬ويطلب‭ ‬إعادة‭ ‬القراءة‭ ‬ليلقَ‭ ‬نقداً،‭ ‬ويفتح‭ ‬جدلاً‭ ‬دون‭ ‬ملل‭.‬

يعزّ‭ ‬علينا‭ ‬جميعاً‭ -‬ونحن‭ ‬الذين‭ ‬أحببناه‭ ‬استثناء‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬العمائم–‭ ‬أن‭ ‬نطلب‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬كي‭ ‬نلتقيه‭ ‬لنقول‭ ‬له‭ ‬أننا‭ ‬نختلف‭ ‬هنا‭ ‬ونتفق‭ ‬هناك،‭ ‬والخلاف‭ ‬معه‭ ‬فيه‭ ‬متعة‭ ‬تفوق‭ ‬الوفاق،‭ ‬لأن‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬يسكنه‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬الرفض‭ ‬والنقد‭. ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬حياة‭ ‬هاني‭ ‬فحص،‭ ‬سيرةً‭ ‬للفتى‭ ‬العاملي‭ ‬المشاكس‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬كل‭ ‬ألوان‭ ‬الطيف‭ ‬في‭ ‬شخصيته‭ ‬المحببة‭. ‬

هاني‭ ‬فحص،‭ ‬العاملي‭ ‬ولادةً‭ ‬وتعلقاً،‭ ‬النجفي‭ ‬علماً‭ ‬ومعرفةً،‭ ‬اليساري‭ ‬فكراً‭ ‬وممارسةً،‭ ‬الفتحاوي‭ ‬واللاهوتي،‭ ‬اللبناني‭ ‬والفلسطيني‭..‬الجزء‭ ‬في‭ ‬الكلّ‭ ‬والكلّ‭ ‬في‭ ‬الجزء،‭ ‬و«النسبي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬طرفاً‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يعرّف‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬المثقّف‭ ‬النهم،‭ ‬والقاصّ‭ ‬المبدع،‭ ‬والناقد‭ ‬الصائب‭..‬‭ ‬هاني‭ ‬فحص‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬سيرة‭ ‬استثنائية‭ ‬لرجالات‭ ‬الدين‭ ‬بالمعنى‭ ‬الفكري‭ ‬والعملاني،‭ ‬أخذ‭ ‬الدين‭ ‬كرسالة‭ ‬لخدمة‭ ‬البشر،‭ ‬وهي‭ ‬الغاية‭ ‬لا‭ ‬الوسيلة،‭ ‬وهي‭ ‬البحث‭ ‬والمعرفة‭ ‬لا‭ ‬الفتاوى‭ ‬والتشريعات،‭ ‬وهي‭ ‬مدى‭ ‬مفتوح‭ ‬لكلّ‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬انتماءاتهم‭ ‬الطائفية‭ ‬والمذهبية‭.‬

كان‭ ‬هاني‭ ‬فحص‭ ‬رجل‭ ‬حوارٍ‭ ‬بامتياز،‭ ‬وكان‭ ‬مدنياً‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬أراده‭ ‬في‭ ‬سعيه‭ ‬للسلم‭ ‬ورفض‭ ‬العنف‭. ‬ويُشهد‭ ‬له‭ ‬مبادرته‭ ‬ومشاركته‭ ‬في‭ ‬‮«‬لجان‭ ‬الإطفاء‮»‬‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬اللبنانية‭ ‬لتخفيف‭ ‬الإحتقان‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬التوتر‭ ‬والتقاتل‭ ‬الأهلي‭. ‬ويُشهد‭ ‬له‭ ‬مساهمته‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬البنود‭ ‬الرئيسية‭ ‬لوقف‭ ‬المعارك‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬بين‭ ‬أمل‭ ‬وحزب‭ ‬الله‭ ‬سنة‭ ‬89‭. ‬

القادم‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬فتحاوية،‭ ‬قناة‭ ‬الوصل‭ ‬بين‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات‭ ‬والإمام‭ ‬الخميني،‭ ‬وصاحب‭ ‬العلاقات‭ ‬الواسعة‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬القيادات‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬كتب‭ ‬وقال‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬‮«‬فتح‮»‬‭ ‬و«منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية‮»‬‭ ‬نقداً‭ ‬لاذعاً،‭ ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬البيت‭ ‬وأحد‭ ‬أبرزالشخصيات‭ ‬الدينية‭ ‬الشيعية‭ ‬التي‭ ‬دعمت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭.‬

من‭ ‬مظاهرة‭ ‬مزارعي‭ ‬التبغ‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬النبطية،‭ ‬إلى‭ ‬خنادق‭ ‬الفدائيين‭ ‬في‭ ‬قرى‭ ‬العرقوب،‭ ‬إلى‭ ‬رحلاته‭ ‬المكوكية‭ ‬بين‭ ‬طهران‭ ‬والنجف‭ ‬وأفغانستان‭. ‬أين‭ ‬ما‭ ‬حلّ‭ ‬هاني‭ ‬فحص‭ ‬حلّ‭ ‬الحوار‭ ‬والبحث‭ ‬والنقاش،‭ ‬أين‭ ‬ما‭ ‬وُجد‭ ‬كان‭ ‬الحضور‭ ‬كثيفاً‭ ‬بعلمه‭ ‬وفكره‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬تمريرالأسئلة‭ ‬والأجوبة‭ ‬برشاقة‭ ‬قلّ‭ ‬نظيرها‭.‬

انحاز‭ ‬السيد‭ ‬بشكل‭ ‬دائم‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬ومشاكلهم‭ ‬وهمومهم،‭ ‬وكان‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬المعذّبين‭ ‬صورته،‭ ‬وفي‭ ‬مأساة‭ ‬فلسطين‭ ‬قضيته،‭ ‬وفي‭ ‬حرية‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬حريته‭. ‬في‭ ‬أسوأ‭ ‬الظروف‭ ‬بقي‭ ‬مواظباً‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬معارضين‭ ‬سوريين‭ ‬مدنيين‭ ‬ديمقراطيين،‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬للمعارضة‭ ‬السورية‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬سنة‭ ‬2012،‭ ‬وكانت‭ ‬الوثيقة‭ ‬التي‭ ‬توجّه‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬العلامة‭ ‬السيد‭ ‬محمد‭ ‬حسن‭ ‬الأمين‭ ‬إلى‭ ‬الشعبين‭ ‬السوري‭ ‬واللبناني‭ ‬نقطة‭ ‬مضيئة‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬انغماس‭ ‬قسم‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الطائفة‭ ‬الشيعية‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬السورية‭ ‬مشاركةً،‭ ‬ودعماً‭ ‬عسكرياً‭ ‬وسياسياً‭ ‬وشعبياً‭. ‬

فلسطين،‭ ‬شغله‭ ‬الشاغل،‭ ‬وقضيته‭ ‬التي‭ ‬أحب‭ ‬وناضل‭ ‬من‭ ‬أجلها،‭ ‬لم‭ ‬يفوّت‭ ‬الفرصة‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬نشاط‭ ‬داعم‭ ‬لحقوق‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والشتات‭. ‬فلسطين‭ ‬التي‭ ‬حضرت‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬رحيله‭ ‬فكانت‭ ‬وصيته‭ ‬أن‭ ‬يُلفّ‭ ‬نعشه‭ ‬بالعلم‭ ‬الفلسطيني‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬العلم‭ ‬اللبناني،‭ ‬وهكذا‭ ‬بكته‭ ‬فلسطين‭ ‬كما‭ ‬بكاه‭ ‬لبنان‭ ‬وكل‭ ‬العالم‭ ‬الحرّ‭.‬

لم‭ ‬يُخاصم‭ ‬السيد‭ ‬أحداً‭ ‬في‭ ‬حياته‭. ‬يقول‭ ‬بعض‭ ‬الخبثاء‭ ‬أنّه‭ ‬اتخذ‭ ‬موقفاً‭ ‬عدائياً‭ ‬لبيئته،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬خصومة‭ ‬مع‭ ‬أمل‭ ‬وحزب‭ ‬الله‭ ‬تحديداً‭. ‬أسمح‭ ‬لنفسي‭ ‬أن‭ ‬أروي‭ ‬حادثة‭ ‬حصلت‭ ‬منذ‭ ‬حوالي‭ ‬الشهر‭ ‬تقريباً‭ ‬‮«‬‭ ‬ذهبنا‭ ‬لرؤية‭ ‬السيد‭ ‬ودار‭ ‬النقاش‭ ‬ودخلنا‭ ‬إلى‭ ‬الشق‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالأفرقاء‭ ‬كافة،‭ ‬وسألته‭ ‬لماذا‭ ‬يغيب‭ ‬أي‭ ‬تواصل‭ ‬مع‭ ‬حزب‭ ‬الله؟‭ ‬أجابني‭: ‬لم‭ ‬أخاصمهم‭ ‬يوماً،‭ ‬أنا‭ ‬أحبهم‭ ‬لكنهم‭ ‬لا‭ ‬يريدون‭ ‬أي‭ ‬حوار‭. ‬أرسلت‭ ‬إلى‭ ‬السيد‭ ‬حسن‭ ‬والشيخ‭ ‬نعيم‭.. ‬ولم‭ ‬ألقَ‭ ‬جواباً،‭ ‬وكذلك‭ ‬حصل‭ ‬مع‭ ‬الرئيس‭ ‬بري‭ ‬الذي‭ ‬التقيته‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬بمناسبة‭ ‬خاصة‮»‬‭. ‬قاطعني‭ ‬بعدها‭ ‬وسألني‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬متابعاً‭ ‬لمدى‭ ‬وأثر‭ ‬رسالته‭ ‬التي‭ ‬وجهها‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬الشيعية،‭ ‬وبدا‭ ‬مسروراً‭ ‬جداً‭ ‬عندما‭ ‬همست‭ ‬له‭ ‬أنّ‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬البيئة‭ ‬المعادية‭ ‬قرأوا‭ ‬الرسالة‭ ‬وقالوا‭ ‬في‭ ‬سرّهم‭ ‬‮«‬مش‭ ‬عم‭ ‬تروح‭ ‬إلا‭ ‬عالمعترين‮»‬‭.‬

كانت‭ ‬علاقته‭ ‬الجيدة‭ ‬بآل‭ ‬الحريري‭ ‬كافية‭ ‬لكي‭ ‬يكتب‭ ‬عنه‭ ‬صبية‭ ‬الجريدة‭ ‬الممانعة‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬‮«‬شيعة‭ ‬الوهابية‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬موقفه‭ ‬المعادي‭ ‬للتدخل‭ ‬العسكري‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬طرف‭ ‬جهاديّ‭ ‬–سنة‭ ‬وشيعة‭- ‬كافياً‭ ‬ليُقال‭ ‬عنه‭ ‬أنه‭ ‬مرتد‭ ‬عن‭ ‬طائفته‭. ‬ذهب‭ ‬كثيرون‭ ‬إلى‭ ‬تخوينه‭ ‬وشتمه‭ ‬في‭ ‬يوميات‭ ‬كلاسكية‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬موقف‭ ‬يعبّر‭ ‬عنه‭..‬بعد‭ ‬رحيله‭ ‬رثوه‭ ‬بوقاحة‭ ‬العارفين‭ ‬بحقه‭ ‬ونقائه‭.‬

يُنهي‭ ‬صلاته‭ ‬ويستقبل‭ ‬الزائرين،‭ ‬ويُطرب‭ ‬لسماع‭ ‬محمد‭ ‬عبد‭ ‬الوهاب،‭ ‬ويُسمعنا‭ ‬شعراً‭ ‬للمتنبي‭ ‬ثم‭ ‬يحدّثنا‭ ‬عن‭ ‬علي‭ ‬شريعتي‭ ‬وضرورة‭ ‬تجاوزه‭ ‬–مع‭ ‬تأكيده‭ ‬على‭ ‬أهميته‭- ‬وقراءة‭ ‬نقد‭ ‬داريوش‭ ‬شايغان‭ ‬في‭ ‬شريعتي‭.‬

إلى‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬الأفغاني،‭ ‬وشعر‭ ‬مصطفى‭ ‬جمال‭ ‬الدين،‭ ‬وأدب‭ ‬أدونيس،‭ ‬وعلاقته‭ ‬بمحمود‭ ‬درويش،‭ ‬وبسام‭ ‬حجار،‭ ‬وحبه‭ ‬لشعر‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬شمس‭ ‬الدين‭.. ‬ثم‭ ‬حديثه‭ ‬الشيق‭ ‬عن‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬ودفاعه‭ ‬عن‭ ‬السيد‭ ‬علي‭ ‬السيستاني،‭ ‬ورفضنا‭ ‬للدفاع‭ ‬وإصراره‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬أنّ‭ ‬المجددين‭ ‬الشيعة‭ ‬غير‭ ‬موجودين‭ ‬اليوم،‭ ‬‮«‬السيد‭ ‬فضل‭ ‬الله‭ ‬كان‭ ‬صديقي‭ ‬وكان‭ ‬منفتحاً‭ ‬جداً،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يجدّد‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬النص‭ ‬وتفسيره،‭ ‬من‭ ‬يذهب‭ ‬نحو‭ ‬المرجعية‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مجدداً‮»‬‭. ‬عن‭ ‬علاقته‭ ‬القديمة‭ ‬بالسيد‭ ‬خامنئي‭ ‬قال‭: ‬‮«‬هو‭ ‬مثقف‭ ‬ومقتدر‭ ‬وقارئ‭ ‬نهم‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يذهب‭ ‬ليكون‭ ‬مرشداً‮»‬‭. ‬حدثنا‭ ‬عن‭ ‬إعجابه‭ ‬بنموذج‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬وعن‭ ‬الفضاء‭ ‬الواسع‭ ‬لرفض‭ ‬السياسة‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬قم‭: ‬‮«‬ما‭ ‬هو‭ ‬خارج‭ ‬الحوزة‭ ‬فضاؤه‭ ‬رحب،‭ ‬فترى‭ ‬المعارضين‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬وسينمائيين‭ ‬ومثقفين‭. ‬حتّى‭ ‬في‭ ‬الحوزة‭ ‬يعلو‭ ‬صوت‭ ‬بعض‭ ‬العمائم‭ ‬التي‭ ‬تنتقد‭ ‬ولا‭ ‬تكمل‭ ‬الطريق‮»‬‭.‬

برحيل‭ ‬سماحته‭ -‬والسماحة‭ ‬عملة‭ ‬نادرة‭ ‬اليوم‭-  ‬خسرنا‭ ‬صرحاً‭ ‬كبيراً،‭ ‬وقلماً‭ ‬جميلاً،‭ ‬وعمامة‭ ‬ودودة،‭ ‬عمامة‭ ‬ضد‭ ‬‮«‬طوق‭ ‬العمامة‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يورد‭ ‬وضاح‭ ‬شرارة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬ايران‭..‬حتى‭ ‬نعشه‭ ‬أبى‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يرد‭ ‬التحية‭ ‬في‭ ‬جبشيت‭. ‬اختال‭ ‬بالأرز‭ ‬والزيتون‭ ‬ومشى‭ ‬إلى‭ ‬لحده‭ ‬فتذكرت‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬‮«‬أوراق‭ ‬من‭ ‬دفتر‭ ‬الولد‭ ‬العاملي‮»‬‭ : ‬‮«‬حفروا‭ ‬له‭ ‬قبرا٬‭ ‬يعترف‭ ‬بعد‭ ‬فوات‭ ‬الاوان،‭ ‬هو‭ ‬قال‭ ‬لهم‭: ‬احفروا٬‭ ‬فحفروا،‭ ‬وعندما‭ ‬أنس‭ ‬اكتمال‭ ‬موته،تدلّى،‭ ‬تمدّد‭ ‬في‭ ‬اللّحد‭. ‬كانت‭ ‬أمه‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬بين‭ ‬البكاء‭ ‬والضحك،‭ ‬هو‭ ‬يحبّ‭ ‬أمه،‭ ‬ولا‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يتعارك‭ ‬معها،‭ ‬فتزعل‭ ‬وتبكي‭ ‬وتشكو‭ ‬تعبها‭ ‬اليومي‭. ‬تمدّد‭ ‬في‭ ‬اللحد،‭ ‬فاضت‭ ‬قامته‭ ‬عن‭ ‬اللّحد‭ ‬قليلاً،‭ ‬رفع‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬القبعة‭ ‬عن‭ ‬رأسه‭ ‬احتجاجاً،‭ ‬وانتصب‭.‬‭ ‬وسّعوا‭ ‬اللحد‭ ‬قليلاً،‭ ‬فاض‭ ‬اللّحد‭ ‬عن‭ ‬قامته‭ ‬قليلاً،‭ ‬فعاودته‭ ‬نوبة‭ ‬الاحتجاج‭..‬حتّى‭ ‬الساعة،‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬يحتج‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬قامته‭ ‬تارة،‭ ‬وعلى‭ ‬طول‭ ‬اللحد‭ ‬تارة‭ ‬أُخرى،‭ ‬وهكذا‭ ‬دواليك‮»‬‭.‬

أتخيّله‭ ‬يحتجّ‭ ‬ولوقليلاً‭ ‬في‭ ‬لحده،‭ ‬فنراه‭ ‬يُؤنسنا‭ ‬بصفاء‭ ‬ابتسامته‭ ‬مجدداً‭.‬

 

احمد عيساوي