من الواضح للمُتأمِّل عميقاً في ظاهرة التكفير وعقليَّاتها المدمِّرة، أنَّ هذه الظاهرة بمختلف حركاتها وتيّاراتها المسلَّحة لم تكن طارئة على الاجتماع الديني فهي ظاهرة فرعونية قديمة، ولا على اجتماعنا العربي - الإسلامي فهي منذ القرن الأول للهجرة، اقترنت لا مع نشوء الخوارج كحركة سياسية فحسب، بل مع نشوء ما يُصطلح عليه بفقه الخوارج ونزعة التفسير الحرفيِّ للقرآن الكريم والسنَّة الطاهرة، التي قدّمت رؤية مُغلقة لفهم الإسلام عقيدةً وشريعة


ولعلَّ أخطر ما في البدايات الأولى، تلك النزعة الصارمة التي لم تعترف بحق الآخر بالإختلاف أو بالإجتهاد لتتم صياغة التراث الحضاري للإسلام وفق منظور اختزل أعظم مفهومين: أحدهما: مفهوم الأمَّة التي بناها الرسول الكريم (ص) على التنوُّع والتعدُّد في ضوء وثيقة دستور المدينة. فجاء العقل الخوارجي ليصادر جوهرة هذا التعدُّد من روح وبنيان مفهوم الأمَّة. حيث قدَّم صورتها إلى العالم على شاكلة المنزع اليهودي لمفهوم الأمَّة التي لا تحتمل الأغيار. ثانيهما: اختزال مفهوم الإيمان والإسلام من مفهوم كان يتَّسع لمسار حركة الأنبياء كلَّها، إلى مفهوم ضيِّق تنتهي حدوده عند الخوارج أنفسهم، إلى أن بلغت ذروة التكفير الإقصائي والإلغائي بموقفهم من تكفير بعض أكابر الصحابة أنفسهم.
ولعلَّ الحلقة المفقودة هي المرحلة التي تطورت فيها حركات الإسلام السياسي من داخل بعض المذاهب الفقهية أوجدت مناخاً من السجالات الحادة حول التفسير والتفسير المضاد، والتأويل والتأويل المضاد ليغدو تسييس الدين والمذاهب واحدة من مصادر الظاهرة التكفيرية التي لم يسلم من تحريفها إلا من رحم الله.
وما يعنينا هو الإلفات، إلى أنَّ حركات التطرف الديني في الإجتماع الإسلامي خاصة والديني عامة، قد ترعرعت في الراهن المعاصر بعد سقوط الخلافة العثمانية والإنقسامات التي مُنيت بها الأمَّة بين نُخبها الدينية والفكرية والسياسية. ولم يكن لها دور إلا بعد استخدام الإسلام في الحرب الباردة وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول. بملاحظة أنّ ظهور الحركات الإسلامية السياسية كانت موضع ترحيب وتقدير من مختلف المذاهب الإسلامية كونها ارتبطت بمشروعين،أحدهما مشروع النهضة والإصلاح، ومن هنا لا يمكن المجازفة بالقول بأنّ حركات التطرف الديني قد نشأت تاريخياً من رحم المذاهب الفقهيّة أو الحركات السياسية الإسلامية.
فلا يزال الموقف الإسلامي العام باتفاق مرجعياته الكبرى في الأزهر والنجف وقم والمغرب، من حركات التطرف بوصفها حركات ناشزة عن القيم الإسلامية، ويمكن القول أن إحياء الحركات العنفية قد تمّ في مراحل ثلاث، عند غزو المغول للشرق، وعند الحروب الصليبيّة، والثالثة برزت مع نشوء ظواهر الانتدابات الأجنبية وتقسيم الشرق الأوسط حيث عمل الغزاة على تفتيت الهويَّة المجتمعيّة للأمة. فجرى توظيف تلك الحركات التكفيرية لتحقيق أغراض المستعمر، وما كنَّا نحسب بعد الصحوة الإسلامية المباركة المتزامنة مع انتصار الجمهورية الإسلامية وانكفاء المشاريع الإستعمارية عن شرقنا الإسلامي، أن تعود هذه الحركات لتُموّل وتُدعم لتصبح جزءاً من المؤامرة على الإسلام والمسلمين ولتحقيق الأهداف المرحلية المترابطة:
- تمَّ إيقاظ هذه الحركات لمواجهة أخطار تمدُّد المشروع الإسلامي والصحوة الإسلامية بقيادة مشروع التوحيد والوحدة بقيادة الإمام الخميني.
- تمَّ إحياء هذه الحركات منذ بدء التخطيط لمشاريع ترسيم الخرائط الجديدة للشرق الأوسط التي تزامنت مع التحضير الصهيوني لهذا المشروع، فيما شهدناه من وثائق جاهر بها شيمون بيريز بشكل سافر عشية العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006.
- تمَّ إحياء هذه الحركات مع المنعطف التاريخي في حركة الصراع العربي - الإسرائيلي منذ العام 2000 لضرب المقاومة الإسلامية من خلال مشروع فصل المقاومة عن شرايين الأمّة وبيئتها الشعبيَّة الحاضنة، حيث بدأ التحضير الصهيوني لحصار المقاومة وتشويه صورتها في الوجدان الشعبي الإسلامي من خلال أوسع عملية تضليل إعلامي، ولاسيَّما بعد انتصاراتها التي أصبحت مثالاً ورمزاً للنهوض والتحرير من المحيط إلى الخليج ومن طنجة إلى جاكارتا.
إنَّ حركات التكفير الإقصائي لا تقوم بتشويه صورة الإسلام والمسلمين فحسب، بل تقوم بمشروع تقسيم الشرق الأوسط الذي لن ينجح ولن يمرَّ على الإطلاق إلاَّ من معابر تمزيق الأمّة والشعوب الإسلامية.
ولا يخفى أنّ هذا المشروع لا يمكن له النجاح إلا بتأجيج الفتن الدينية والمذهبية والطائفية منذ احتلال العراق مروراً بأحداث سورية ولبنان وصولاً إلى ما يجري في مصر والخليج والمغرب العربي.
والسؤال، كيف نواجه هذا التحدِّي، وما العوامل الإقليمية والدولية التي سمحت لهذا السرطان بالتسلُّل إلى حواضرنا العربية والإسلامية عبر مشاريع دولية وإقليمية تمول الإرهاب التكفيري وتسلحه في واضحة النهار؟