يخضع الواقع اللبناني ومستقبله، كجزء من “البازل الاقليمي” لمعاينة دقيقة في ضوء المشهد الاقليمي اللاهب الممتد من العراق الى غزة، مروراً بسورية وليبيا واليمن وسواها من الساحات التي ترتسم من خلف دخانها ملامح مرحلة آخذة في الافول وملامح مرحلة اخرى لم تكتمل معالمها بعد.

وبدا لبنان، الذي نجا من فخ عرسال التفجيري قبل نحو اسبوع، وسادته اجواء انفراج مع عودة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من اقامته الاضطرارية في الخارج وكأنه يعاند السقوط من فوق الحبل الاقليمي المشدود، وسط تدافع دائم بين خطر انضمامه الى نادي الدول المشتعلة بفعل ارتدادات ما يجري في سورية والعراق، ومظلة من تقاطعات في المصالح الاقليمية تحفظ الحد الادنى من استقراره السياسي والامني الهش.

وشكلت عودة الرئيس الحريري، بعد ثلاثة اعوام على مغادرته البلاد اثر تحذيرات من مخطط لاغتياله التطور الابرز اخيراً لما انطوت عليه من دلالات اقليمية ومحلية تقوم على تحصين “بوليصة التأمين” السعودية للواقع اللبناني في مواجهة خطر الارهاب المتعاظم في المنطقة من جهة ولـ “ترييح” الداخل اللبناني بما امكن من خطوات في اطار مواجهة المأزق السياسي – الدستوري في البلاد.

وقالت اوساط سياسية واسعة الاطلاع لـ “الراي” ان عودة الحريري لم تتم في اطار تفاهم اقليمي كما يحلو للبعض ان يشيع، ولا هي وليدة تسوية مبرمجة تم الاتفاق عليها على نحو مسبق، لكنها تنطوي بالتأكيد على مناخ اقليمي جديد، من غير المستبعد ترجمة مفاعيله على المستوى الداخلي، وان على طريقة الخطوة – خطوة.

واعربت هذه الاوساط عن اعتقادها ان حجر الزاوية في المناخ الاقليمي الجديد يتمثل في الواقع المستجد في العراق، خصوصاً مع حصول تقاطع مصالح، سعودي – ايراني، تم التعبير عنه في رغبة طهران والرياض بإزاحة رئيس الوزراء العراقي الحالي نوري المالكي، توطئة لقيام حكومة وحدة وطنية تعيد لملمة الواقع العراقي، اضافة الى ما تشكله “داعش” من خطر مشترك بالنسبة الى السعودية وايران على حد سواء.

وفي تقدير هذه الاوساط ان الالتقاء غير المباشر بين الاهداف السعودية – الايرانية المشتركة في العراق (المالكي وداعش) شكل مناخاً جديداً يؤسس لمقاربات مختلفة قد يكون لبنان احدى ساحات اختبارها، وهو ما حمل الحريري الى بيروت، متجاوزاً المجازفة بأمنه الشخصي ومعلناً عن مهمة مزدوجة تقوم على مواجهة الارهاب وتعزيز الوحدة الوطنية.

واذا كانت عملية مكافحة الارهاب وضعت على السكة من خلال المباشرة بوضع آليات صرف مكرمة المليار دولار السعودية موضع التنفيذ، فان حركة الحريري بدأت بتزخيم الحيوية السياسية التي من المتوقع ان تفضي الى انفراجات تراكمية من دون اي اوهام على امكان حدوث اختراقات قريبة في شأن التفاهم على رئيس جديد للجمهورية.

وكان لافتاً في هذا السياق ان الحريري الذي بدا وكأنه “ام الصبي” في جمع شمل القيادتين السياسية والروحية مع التسوية التي افضت الى انتخاب المفتي الجديد، سارع الى زيارة رئيس البرلمان نبيه بري كبادرة من شأنها ترييح الحال السنية – الشيعية التي عانت احتقاناً في المدة الاخيرة، خصوصاً بعد مشاركة “حزب الله” في المعارك العسكرية في سورية الى جانب نظام الرئيس بشار الاسد.

واذ لم ير الحريري “اسباباً موجبة” لعقد لقاء مع الامين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله، فان العلاقة بين الطرفين تتجه للانتقال من “ربط النزاع” الذي ترجم في قيام حكومة ائتلافية بمشاركة الطرفين، الى ما امكن من “فك اشتباك” عبر ما وصفه وزير الداخلية نهاد المشنوق (من تيار الحريري) بـ “تنظيم الخلاف”، الامر الذي يوحي بوجود قرار بتمديد المهادنة السياسية الداخلية.

هذا المناخ الاقل سلبية في البلاد التي ما زالت تحصي “خسائر” المواجهات في معركة عرسال وجرودها، لن يؤدي الى انفراجات دراماتيكية، وتالياً فان الدعوة رقم عشرة لعقد البرلمان جلسة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية لن تتيح التئام مجلس النواب بسبب استمرار سريان قرار بعض الخارج الاقليمي وبعض الداخل اللبناني باحتجاز عملية انتخاب رئيس جديد لاعتبارات تتصل بالصراع الكبير في المنطقة.