بدأ لبنان يتجاوز الخطر الذي كان يتهدده منذ السبت الماضي إثر قيام مجموعة مسلحة تنتمي الى «داعش» و«جبهة النصرة» بشن عدوان واسع على وحدات الجيش اللبناني المنتشرة عند مداخل بلدة عرسال البقاعية وبعض مرتفعاتها، احتجاجاً على توقيف السوري عماد أحمد جمعة المنتمي الى «داعش» وذلك بفضل نجاح المساعي التي تولاها وفد «هيئة العلماء المسلمين» مع قادة هذه المجموعات، وأدت في الثالثة من فجر أمس الى استكمال انسحاب المسلحين وعددهم أكثر من ألفي مسلح في اتجاه المناطق الجردية التي كانوا يتمركزون فيها قبل بدء العدوان، ومنها الى داخل الأراضي السورية في منطقة القلمون.

لكن الركون الى أن هذا الخطر أصبح من الماضي هو في حاجة، كما يقول عدد من الوزراء لـ«الحياة»، الى عناية فوق العادة من قبل الدولة اللبنانية والسياسيين على السواء، لاستعادة عرسال الى عرين السلطة الشرعية وتحريرها نهائياً من العبث بأمنها واستقرارها من قبل المجموعات المسلحة الإرهابية. وهذا يتطلب إنهاء خطوط التماس الجغرافية والسياسية التي ما زالت قائمة بينها وبين جارتها بلدة اللبوة.

فالعلاقة الراهنة بين بلدة عرسال وجيرانها من البلدات ليست على ما يرام، وتأتي انعكاساً لارتدادات الحرب الدائرة في سوريا على لبنان ومن خلالها منطقة البقاع الشمالي وبالتالي لا بد من تضافر الجهود لخفض منسوب التوتر والاحتقان الطائفي والمذهبي كمدخل لتصحيح العلاقة بين هذه البلدات.

إلا أن انسحاب المسلحين الذين أعادوا انتشارهم بين المنطقة الجردية في الأراضي اللبنانية وبين الأخرى المحاذية لها في الداخل السوري، لا يكفي للتأكيد على أن الوسطاء نجحوا في تحرير عرسال نهائياً من الأسر وإعادتها الى حضن الدولة اللبنانية، ما لم يصر الى تعطيل اللغم السياسي الذي يمكن أن ينفجر في أي لحظة، والناجم عن احتفاظ المجموعات المسلحة بعدد من العسكريين من جيش وقوى أمن داخلي كانوا اختطفوهم في اليوم الأول من بدء عدوانهم على القوى الأمنية واقتادوهم فوراً الى المنطقة الجردية المتداخلة بين لبنان وسوريا.

ومع أن لا تقدير نهائياً حول عدد العسكريين المخطوفين، على رغم أن مصادر سياسية مواكبة للوساطة التي تولاها وفد «هيئة العلماء المسلمين» تؤكد بأن عددهم يزيد على 26 عسكرياً، فإن استمرار اختطافهم حضر بامتياز في جلسة مجلس الوزراء أمس برئاسة رئيس الحكومة تمام سلام في حضور قائد الجيش العماد جان قهوجي الذي أكد عزم القيادة العسكرية على استردادهم مهما كلّف الأمر، لافتاً -كما قال أحد الوزراء لـ«الحياة»- الى أن وحدات الجيش استعادت زمام المبادرة وأعادت انتشارها وأن البحث جارٍ لجلاء مصير العسكريين المفقودين، خصوصاً "بعدما تمكنوا من التصدي للمشروع الإرهابي الذي كانت هذه المجموعات تخطط له لاستهداف لبنان وتغيير وجهه."

وأكد عدد من الوزراء بأن وفد «هيئة العلماء المسلمين» يواصل مساعيه لدى المجموعات المسلحة لاسترداد العسكريين، وقالوا إن بعض الوزراء يواكب هذه المفاوضات على أمل أن تسفر عن الإفراج عنهم في وقت قريب.

وكان مجلس الوزراء أشاد بالجهود التي يبذلها الجيش والقوى الأمنية في التصدي للإرهابيين ومنعهم من تنفيذ مخططهم الرامي الى نشر الفوضى وشل قدرة الدولة في هذه المنطقة اللبنانية.

ونوّه سلام بالتفاف اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم خلف جيشهم وقواهم الأمنية في معركتها المشرفة دفاعاً عن السيادة الوطنية، عارضاً للجهود التي بذلها في الأيام الماضية بالتنسيق مع الوزراء المعنيين ومع قيادة الجيش لإنهاء الوضع الشاذ القائم في عرسال ومنطقتها بتحرير المحتجزين من أفراد القوى العسكرية، وانسحاب المسلحين وإدخال المساعدات الى البلدة المنكوبة تمهيداً لإعادة الحياة الى طبيعتها.

ولاحظ الوزراء أن قهوجي رد بأجوبة مقتضبة على بعض أسئلتهم مفضلاً عدم الدخول في التفاصيل مكتفياً بإبداء الارتياح حيال تحسن الوضع الميداني على الأرض.

وفي شأن الاتصالات الجارية لاسترداد العسكريين والتي واكبها النائب جمال الجراح الذي بقي على اتصال بالرئيسين سلام والحريري وعدد من الوزراء المعنيين، الى جانب الاتصالات التي أجراها الأمين العام لمجلس الدفاع الأعلى اللواء محمد خير بالعماد قهوجي، علمت «الحياة» أن وفد «هيئة العلماء المسلمين» كان تلقى وعداً من قادة المجموعات المسلحة بتسليم العسكريين فور انسحابهم من عرسال شرط أن يأخذ وجهاء البلدة على عاتقهم توفير الحماية الأمنية والسياسية للنازحين السوريين فيها، خصوصاً أن لدى معظمهم أقارب بين هؤلاء.

لكن المجموعات المسلحة أعادت النظر في موقفها قبل أن تنهي انسحابها من عرسال، على رغم أنها كانت نقلت هؤلاء العسكريين الى المناطق الجردية، وتردد -كما يقول الوسطاء- أن تراجعها عن موقفها يكمن في أمرين: الأول يكمن في الصعوبات التي واجهت المشرفين على قافلة إغاثة أهالي البلدة لجهة منعهم من قبل أهالي اللبوة من إيصال المساعدات الإنسانية والطبية لهم، بذريعة أن هذه المساعدات ستوزع على النازحين السوريين ومن خلالهم على مسلحي «داعش» وجبهة «النصرة»، ولم يفرج عن هذه المساعدات إلا بتدخل مباشر من الحريري مع سلام وقهوجي وآخرين.

أما الأمر الثاني فيعود الى وجود مخاوف لدى المسلحين على النازحين المقيمين في عرسال من أن يتعرضوا للتنكيل والانتقام فور انسحابهم منها إلى الجرود، إضافة الى أنهم تعاملوا مع إعاقة وصول المساعدات إلى البلدة على أنها بمثابة رسالة فحواها إمكان قطع الطريق الى عرسال في أي لحظة.

وفي هذا السياق، كشف عدد من الوزراء عن أنهم أثاروا في الجلسة إعاقة دخول سيارات الصليب الأحمر لنقل الجرحى الى مستشفيات زحلة وشتورا لتلقيهم العلاج، إضافة الى الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية التي لم يتم الإفراج عنها إلا بعد مداخلات أجمعت على عدم تسييس الجانب الإنساني وتحييده عن الاختلاف حول الحرب الدائرة في سوريا.

ونصح عدد من المواكبين لوساطة «هيئة العلماء» مع استمرار المفاوضات مع المسلحين، بضرورة التركيز على أن هذه الضمانات للنازحين لا توفرها إلا الدولة، وبالتالي ليس في قدرة وجهاء عرسال توفيرها لأن لا مصلحة في تغييب مرجعيتها، خصوصاً أن هناك وزارات عدة تولي اهتماماً بملف النازحين. ونقلوا عن أحد المشايخ من الوسطاء قوله إن ما تريده المجموعات المسلحة من الهيئة هو أن تتوصل مع الدولة الى التفاهم على آلية لحماية النازحين، وأن لا صحة لما يشاع أنها تطلب فدية أو مقايضة الإفراج عن العسكريين بالإفراج عن جمعة، وأن تراجعها عن إطلاقهم سببه استهداف النازحين لحظة الانسحاب بعدد من القذائف تسببت بسقوط قتلى وجرحى.