ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الامامين الحسنين في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع من المؤمنين ومما جاء في الخطة السياسية :

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ولبلوغ التقوى، علينا الاقتداء بسيّد شباب أهل الجنة، وأشبه الناس خُلقاً وخَلقاً وسؤدداً برسول الله.. مَن قال عنه رسول الله(ص): "اللهُم إني أحِبّه، فأَحبّهُ وأحبّ من يُحبّهُ"، مَن كان جده رسول الله(ص)، وأمه الزهراء(ع)، وأبوه علياً(ع)، الإمام الثاني من أئمة أهل البيت(ع)، والرابع من أهل الكساء، الإمام الحسن بن علي(ع)؛ هذا الإمام الّذي نستعيد ذكرى ولادته العطرة في الخامس عشر من شهر رمضان المبارك؛ هذه الذكرى التي تعيدنا إلى مواعظه وكلماته الّتي توجّه بها إلى كلّ إنسان. ومما قاله: "يا ابن آدم: عفّ عن محارم الله تكن عابداً، وارض بما قسم الله تكن غنيّاً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحب الناس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك به، تكن عادلاً.

إنّه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بوراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً. يا ابن آدم، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمّك، فجد بما في يديك، فإنّ المؤمن يتزود، والكافر يتمتع".

أيها الأحبة، لتكن الدنيا ساحتنا الّتي نتزوّد منها ما يقينا من مواقف الذل والهوان أمام رؤوس الأشهاد يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها؛ يوم يقوم الناس لرب العالمين. وبذلك، نحقّق أهداف وجودنا، ونملك القدرة على مواجهة التحديات؛ تحديات النّفس الأمارة بالسوء، وتحديات الشيطان المتربص بنا، وتحديات الخارج، وهي كثيرة.

والبداية من غزة، الّتي قدّم شبابها وشيوخها ونساؤها وأطفالها مجدداً، أنموذجاً رائداً في التضحية والصبر والثبات، وتحدي جبروت العدو الصهيوني وغطرسته، رغم الحصار، ورغم كلّ الجراح والآلام والقتل والتدمير الممنهج، ورغم صمت العالم المطبق، سوى من بيانات خجولة لا تُسمن ولا تغني من جوع.

فها هي صواريخ المقاومة في غزة تصل إلى عمق الكيان الصهيوني، وإلى تلّ أبيب، والقدس، وعسقلان، وأسدود، وبئر السبع، وصولاً إلى حيفا، ليعيش هذا الكيان المعاناة نفسها الّتي كان يريد للشّعب الفلسطيني أن يتجرّعها وحده، فالخوف لم يعد محصوراً بالجانب الفلسطيني، ولا الخسائر يتكبدها وحده، بل بتنا نرى الخوف على أوجه الصهاينة وقادتهم، وطاولت الخسائر مدنه ومواقعه الحيوية.

إن القيمة التي عبّر عنها المقاومون هناك، أنهم لم يستجدوا قرارات دولية ليدافعوا عن أنفسهم، ولم يناموا على أحلام المفاوضات الجارية، ولا الوعود والأماني المعسولة، أو التوافقات العربيّة والإسلاميّة، بل اعتمدوا على قدراتهم الذاتية، وما توافر لهم من دعم، ممن آمن بالمقاومة ولم يرد سواها، فصنعوا من ضعفهم قوة، وأثبتوا أن العين يمكنها أن تقاوم المخرز.

إننا أمام ما جرى ويجري، لا بد من أن نحيي الشعب الفلسطيني ومجاهديه، الذين يتحدون جبروت هذا العدو بلحمهم العاري، ويثبتون في أرضهم صائمين صابرين محتسبين، ومتسلحين بقول الله تعالى: "حسبنا الله ونعم الوكيل".

إننا نقول للمجاهدين: ليس أمامكم إلا جهدكم، ولا خيار لكم إلا أن تواصلوا مقاومتكم، وأن تقلعوا أشواككم بأظافركم، أسوة بكل الساعين إلى الحرية والعيش الكريم، وبكل المقاومين والمجاهدين في هذا العالم. لا تعوّلوا على الأنظمة العربيّة، لأنها لم تعقد صفقات السّلاح إلا بعدما تعهّدت بأنها لن تستعملها في مواجهة العدو الصهيوني، ولا على القرارات الدوليَّة وتدخّلات الدول الكبرى، التي يهمها أن تسقط مواقع القوة لديكم، حتى تفرض الشروط عليكم، وقد أعلنت بوضوح أنها مع كل ما يقوم به الكيان الصهيوني، وعلى الأقل، تضع الجلاد إلى جانب الضحية.

ويبقى على الشعوب العربية والإسلامية، وكل من يدعي الإخلاص لفلسطين، أن ينتفضوا، وأن يتجاوزوا لأجل فلسطين كلّ الحساسيات والحسابات، ويجمدوا كلّ الحروب، وأن يعلموا أن ما يعانونه من فتن وحروب ومشاريع تقسيم، ومن ظلم حكام وغيره، حدث في الأصل لأجل الكيان الصهيوني، ليكون الأكثر حضوراً والأقوى في المنطقة.

وعلى الدول العربية والإسلامية أن لا تكتفي باجتماعات تعقدها، بل أن تتخذ موقفاً حاسماً من الكيان الصهيوني ومن يدعمه، وأن تضع إمكاناتها وقدراتها في مواجهة العدو الصهيوني، لا في مواجهة بعضها البعض، أو تدمير مواقع القوة لديها.

وهنا، نقول لكل الذين ينفخون في أبواق الفتن: من العيب والعار أن تعملوا على كبت المشاعر والعواطف تجاه فلسطين، لتشحنوها بكلّ عناصر الحقد المذهبي والطائفي، فلا يرفع أيّ سلاح، أو تطلق أي فتوى للجهاد، أو تتحرك أي مؤسسة للتضامن مع شعب فلسطين، الذي تتناثر أشلاء أطفاله في كل اتجاه، وتحت كل حجر ومدر!!

ونصل إلى العراق، الذي تستمر معاناته جراء من باتت تدغدغهم أحلام التقسيم، ويريدونه أن يتحول إلى أمر واقع، والّذي، كما أشرنا سابقاً، لن يكون في خدمة الساعين إليه، بقدر ما هو مشروع فتنة للعراق، وعلى مستوى المنطقة.

ومن هنا، نعيد التشديد على كل مكوّنات الشعب العراقي، بإبقاء رهانهم على وحدتهم الوطنية ودولتهم المركزية، وإذا كان هناك من أخطاء، أو إرادة للإصلاح أو التغيير، فالمعالجة تكون من خلال المؤسسات، لا من خلال غيرها. وندعو أصحاب القرار في هذا البلد، إلى الإسراع في التوافق على إنشاء حكومة جامعة تنطلق من إرادة الشعب العراقي، وتعمل على تعزيز أواصر الوحدة بين كل مكوناته، ليبقى هذا البلد قوياً عزيزاً في مواجهة من يشكلون خطراً على العراق ودول المنطقة والجوار.

أما لبنان، فنخشى أن تصل إليه مجدداً تداعيات ما يجري في محيطه، حيث الحديث عن خلايا نائمة، وعن تفجيرات وخروقات أمنية يراد لها أن تحصل في هذه المنطقة أو تلك، في ظلّ تأجيج طائفي ومذهبي، طاولت شراراته حتى الجهات الأمنية والقضائية.

إنّ كل هذا الواقع بات يستدعي تكاتف اللبنانيين مع بعضهم البعض، والوقوف مع القوى الأمنية، التي تبقى الرهان دائماً، لأنها تشكّل ضمانة الأمن والاستقرار، بعد أن أثبتت قدرتها على وقاية البلد من الساعين لإرباك أمنه وتهديد استقراره، وستبقى كذلك.  كما لا بدّ من الإسراع في معالجة الملفات الكثيرة العالقة، سواء على الصعيد السياسي أو المعيشي، مما يطول ذكره.

أيها المسؤولون، إن هذا البلد أمانة في أعناقكم، فلا تتقاذفوه كالكرة، التي يريد كل طرف أن يرميها في مرمى الآخر، ليسجل عليه النقاط، فيما يراد للأرض أن تهتز تحت أقدامنا جميعاً.