إن العارفين بنهج الإمام علي (ع) وبلاغته يدركون تماماً تأسيساته الأولى لفقه الاعتراض وفقه الموالاة بناظم أن تكون وحدة الأمة هي المقياس في معنى السياسة وشرف التدبير فلم يكن شيء أبغض إلى قلب علي من معصية الله يجاهر بها العاصي بتفرقة الدين، أو من الخلاف يستعر بين المسلمين فمضى على نهج النبي (ص) ليطفئ بواعث الفتنة بدءاً من سقيفة بني ساعدة حيث نصح رجال الشورى بحقـن الـدماء، مروراً بإغلاق أبواب الفتن واحدة تلو الأخرى من فتنة الجمل والنهروان إلى فتن التحكيم، وما كان همه إلا ردع السفهاء والخلعاء والجائرين ليصفو الأمن الإسلامي من تلك الحروب التي أثخنت جسد الأمة بجراح الأهواء والفساد، ومن يرجع إلى نبراس نهج البلاغة يجد فيه منهاجاً كاملاً لضبط الوحدة الإسلامية بهداية القرآن

 وقد كان للشريف الرضي مع أهمية مجهودات الجاحظ شرف السابقة في جمع ما تناثر من كلام الإمام وتناثر ضمن كتاب «النهج» ليكشف بلسان علي: «إن الناس أعداء ما جهلوا» - «ورب عالم قتله جهله» - ثم يعالج من بعد ذلك سداد الحكمة والسياسة عند علي ليواجه من خلالها ظاهرة انقسام الأمة عن الأئمة فيلفتنا من خلال هذا النهج إلى جدل العلاقة بين السلطة والمجتمع «بأن أعظم الخيانة خيانة الأمة وأفظع الغش غش الأئمة». ويقول الدكتور صبحي الصالح رحمه الله في مزايا ضبطه لنصوص نهج البلاغة: «وكان طبيعياً بعد أن استفاضت شهرة الكتاب أن يقل الاختلاف في نصه وأن ينتقل من جيل إلى جيل برواية تكاد تكون واحدة». فإذا انفصمت عرى الوحدة وكثرت الفرق وتشعبت الآراء يدعونا شارح «النهج» إلى الانضواء تحت لواء التوحيد مستنيراً فيما هتف به الإمام داعياً إلى وحدة الكلمة: «الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة وبنيت عليه أركان الطاعة وأقدموا على الله مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين».
 وإذن في نهج البلاغة ثمة جواهر معرفية ومنظومة من قيم الفلسفة الاجتماعية والإنسانية تتماهى تماماً فيمن قال عنه النبي (ص): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، وإن في نهج البلاغة علماً وحكمة وفلسفة في الدين والسياسة والأخلاق والاجتماع وفيه ثمة لغة وروح قد تعين الأديب على تقليد مفردات اللغة ولكنه لن تسعفه أبداً على مضاهاة خفقة القلب أو خلجة الروح المتوقدة بتوحيد الله ووحدة الأمة.
ربما انزعج بعض الباحثين من صراحة الإمام علي (ع) ونقده الجارح لواقع ما آلت إليه أوضاع الأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله (ص) فلم يشأ أن يصدق من أشرف الكلام وأبلغه أن الناقد هو علي (ع) في واضحة الفتن المظلمة في نهار العرب، وأن علياً (ع) إنما يرمي من وراء نقده إلى تعديل بوصلة الأمة نحو وحدتها على عين الله ورضاه. وقد اعترف أئمة اللغة وشارحو نهج البلاغة بأن هذا المستوى من طرائق البيان هو بعض ما في العربية من كنوز ولكن النهج تفرد من بينها بأسلوب إبداع المعنى المستضيء بنور القرآن وآياته البينات فلا يفوته من نصح الأمة المزدانة بجلباب الورع والتقوى إلا أن يدلها على أثر الاستقامة في مناعة الوحدة المرتجاة في زمن الفتن.