قد نقف على التفاوت بين إسلام التصور وإسلام التصديق، حيث لا يصبح الإسلام صادقاً إلا بالتصديق الشامل المسؤول، الذي لا يعترف بمستويات الإيمان الجزئية، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض، فيما نسميه اليوم بأنصاف الحلول، وأنصاف المواقف. 


(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ.. أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ..) - النساء: 150- 151.
وقد أوجز عيّاض في «تاريخ التشريع الإسلامي» للخضري، بقوله: إن الوضاعين أقسام، فمنهم من كان يضع عليه ما لم يقله، ترفعاً واستخفافاً كالزنادقة وأشباههم، ومنهم من كان يضع أغراباً وسمعة وتعصباً، كفسقة المحدثين ومتعصبي المذاهب، ومنهم من كان يضع الأحاديث تنفيذاً لرغبة الحكام، عذراً لهم فيما ارتكبوه من الجرائم والمنكرات، ومنهم لهوى في نفسه، إلى غير ذلك من أصناف الكذابين الذين أفلحوا في تهميش النص الأصلي لكتاب الله، إن لم نقل في إبعاده عن مسرح الواقع، ولذلك علينا في سياق الدعوة إلى وعي تطبيقي للقرآن، أن نواجه مباشرة جميع النتائج التي ظهرت في ثقافتنا الإسلامية، بمحاكمة صارمة، بمقارنة الحديث على حاكمية النص القرآني، على قاعدة: ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فأعرضوا عنه وارموا به عرض الحائط، كمنهج أساسي لهذا الوعي، حيث إننا في غياب هذا المنهج، سنقع في الأخطاء التاريخية نفسها، وفي ضوء ذلك يجب أن نواجه ظاهرة الغلو في تحميل النص القرآني ما لا يحتمل، فلقد كان الإسراف في ذلك من أخطر ما واجهته الحياة الإسلامية، حيث خرج الناس عن الحدود والضوابط التي وضعها القرآن، على نحو طغت فيه النزعات المذهبية والكلامية، حتى قدر لبعض الدعوات المنحرفة أن تنفذ إلى العقل الإسلامي من هذه الثغرة لتروج أفكارها المعادية للقرآن، فانتشرت البدع والمحدثات، وغلبت على المسلمين نزعة التعصب للمعتقدات الوافدة، وكان لا بد أمام هذا التحدي من إعادة الاعتبار للوقوف عند النص القرآني، ودحض المحاولات التي عمدت إلى صبغ الفكر الإسلامي بلون غريب يتنافى مع ألوانه الزاهية الأصيلة، لاسيما أن لا سبيل للاجتهاد فيما يتعلق بأصول العقيدة الثابتة.
فلا يصح تأويل القرآن وتفسيره إلا وفق المنهج المقرر، القائم على أساس أن هذا القرآن وحي أوحى به الله سبحانه إلى نبيه، وبعد التسليم والتصديق يجري العقل في ظل الإسلام شاهداً على القرآن وليس حاكماً عليه، فيمضي معه بعد ذلك باتصال مفتوح على إبداع الفكر الإنساني، الذي يستوي ناضجاً كثمرة من ثمرات العمل والالتزام بالنص، ويلقي بتعبيراته الرحبة، ممثلاً لكلمة الله على الأرض.
وفي هذا المنهج تحرير للعقل نفسه من دخائل الهوى والغرض، وانتصار لتجديد الفكر وتصحيح مفاهيمه نحو التكامل الذي اتسمت به الرؤية القرآنية عن الكون والإنسان والتاريخ، وبذلك نعي أن اختلاف المسلمين لم يأت من قبل النص القرآني الأول، وإنما جاء من النصوص الثانية، التي انحرفت به إلى معان ضيّقة وهي السبب المباشر في تعطل نمو الشخصية القرآنية، وتمزيقها في ملاعب التطرف والجمود، من خلال الافتراء على الله وكلماته سبحانه وتعالى عمّا يصفون: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) هود: 18.
كذلك فإن الوعي التطبيقي لكتاب الله لا يعترف بالفصل بين هويات المؤمنين، ولا بتقسيم حدودها الجغرافية، فللمؤمنين عقيدة واحدة هي التوحيد، وهوية واحدة هي الكدح والجهاد والتغيير ولذلك يجب مقاومة مشاريع التجزئة والتقسيم، ومشاريع التغريب والانقطاع عن الجسد الواحد، لأن المحتوى الموضوعي للقرآن كله يقوم على فكرة التعارف بين الأمم والشعوب، وعلى فكرة - الولاية - بين المؤمنين، والانصياع لأمر الله سبحانه ورسوله في قضية الانتماء للأسرة الإنسانية.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) - الحجرات: 13.