أقف الآن في وسط الطريق، حائراً في أيّ اتّجاه أسلك لأفجّر نفسي. هل أذهب إلى الضاحية ليُظَنّ أني تكفيريّ سنّي ضدّ "حزب الله" و8 آذار، تالياً ضدّ المحور السوريّ- الإيرانيّ المدعوم من روسيا ودول أخرى تُسمّى دول الممانعة؟ أم أذهب في اتجاه الستاركو ليُظَنّ أني شيعيّ ضدّ تيّار "المستقبل" و14 آذار، تالياً ضدّ المحور الأميركيّ - السعوديّ المدعوم من دول الخليج ودول أخرى تُسمّى دول المواجهة؟ أم أذهب في الآن نفسه إلى هنا وهناك، ليُظَنّ أني الاثنان معاً، فيضيع الضائعون في متاهة الاجتهادات والتحليلات، ويكون لي أن أتصيّدهم واحداً واحداً؟

أنا المنتحر أدناه...
أقف الآن في وسط الطريق، لا تتملّكني حيرة، ولا يستولي عليَّ ارتباك. سأحظى بكم أينما قصدتُ، وسيكون لكم منّي نصيب كيفما استدرتُ. لن توفّر أياً منك، أساليبي في الانتحار والتفجير. لذا أقف الآن في وسط الطريق، وأقهقه عالياً.
أضحك لأنّكم أذكياء. أضحك لأنّكم أغبياء.
أضحك لأنّكم مسلمون. أضحك لأنّكم مسيحيّون.
أضحك لأنّكم يمينيون. أضحك لأنّكم يساريون.
أضحك لأنكم ممانعون. أضحك لأنكم لا.
لأنّكم تنتخبون. لأنّكم تقاطعون.
لأنّكم تجتمعون. لأنّكم لا تجتمعون.
الأهمّ من هذا كلّه، أضحك لأنّكم تثيرون فيَّ الضحك.
أنا المنتحر أدناه...
أقف الآن في وسط الطريق، قويّاً، جريئاً، عنيداً. قوّتي أستمدّها من ضعفكم. جرأتي من خوفكم. عنادي من تردّدكم. العابرون يلامسون خاصرتي، وخاصرتي مزنّرة بموادّ متفجّرة. القريبون يسلّمون عليَّ باليد، وفي يدي قنبلة. حبيبتي تزرع قبلة على شفتيَّ، وأنا أزرع لغماً تلو لغم. لا أحد يشكّ في أمري. أهلي يحبّونني. أصدقائي يعتبرونني مصدر ثقة. ربُّ عملي راضٍ عن عملي. الجميع يحترمني. يقدّرني. ما أجملني أنا المنتحر أدناه.
أستقلّ سيّارة تاكسي. يسألني السائق إلى أين. أقول له إلى حيث. يسألني لِمَ بطني كبيرٌ منتفخ. أقول لأّنه الكرش الذي ربّيتُه واعتنيتُ به حتّى صار صديقاً لا يفارقني. السائق لا يقتنع. السائق يعيد طرح السؤال غاضباً مكفهراً: لِمَ بطنك كبير؟ أتذكّر فوراً شابوران روج، حين سألت الذئب السؤال نفسه، معتقدةً أنّه جدّتها بعدما أكلها وجلس في سريرها. أبتسمُ للفكرة. ينزعج السائق. يعبس. يسألني لِمَ أبتسم. أخبره عن شابوران روج. يعتبرني مزّاحاً ثقيلاً وسمجاً. يستشيط. يوقف السيّارة. يهدّدني بإنزالي بالقوة إن لم أجبه عن السؤال. أوكي، أقول له. إنّي حامل. يخرج السائق على طوره. يفتح بابه، يهرول مسرعاً في اتجاه الباب حيث أجلس، من الجهة الأخرى، ويشدّني بكلّ ما أوتي من قوّة ويشحطني إلى الخارج شاتماً.
ببرودة أعصابي، أسأله منذهلاً:
لِمَ لا تصدّق؟! إنّي حامل فعلاً.
إنّي حامل. نعم. الرجال يحبلون أيضاً.
حامل بمجّانيّة الموت، وكلفة الحياة الباهظة.
بالأب والإبن والحفيد.
بأبديّة الحكم المؤبّد بمآدب التأييد والتأبيد إلى أبد الآبدين.
بزمننا العاقر ينجب إمّا مجرمين إمّا قدّيسين.
بسلطاتنا المتوارثة بالإثم.
بديبلوماسيّات الجرب والقمل والقرف.
باحترافنا المساومة.
بموهبتنا في الهدر.
برهاناتنا.
برهاناتنا على رهاناتنا.
بتسويات سَوَّتْنا ولم تستوِ.
بدَجَل الدول الدوليّ.
بقضايا كبيرة جدّاًّ تحوّلت فجأة تجارة كبيرة جدّاً.
أنا المنتحر أدناه...
أقف أينما أريد. أمشي ساعة أشاء.
في عين الشمس، على مرأى منكم.
ألفّ نفسي بحزام ناسف يلفّ خاصرة العالم وينسفه.
أنا اللغم المعلّق فوق رؤوسكم. تحت أقفيتكم.
أنا السيّارة المركونة بجانب الرصيف.
أنا السيّارة السائرة في الشارع، كلّ شارع.
أنا السيّارة، والفان، والحافلة.
أنا السّيفور، والمولوتوف، والديناميت.
أنا الموادّ المتفجّرة كلّها معاً وفي آنٍ واحد.
أنا أمنُكم المخترَق.
أنا حدودُكم المفتوحة من الجهتين كعاهرتين بحجر.
أنا ضميرُكم المطعوج، عدلُكم المفلوج.
أنا العرق المثخن بالطاعة العمياء، جراذين الخضوع، أوامر الخفير، الأمر الواقع، الابتزاز، الترهيب، الشرف المجروم، التفاني، التجاسر، دَوس الكرامات، إدّعاءات العفّة، الفلتان، الباطل، الأضاليل، الجزمة وحلقتها الحديد والمسامير الدكمة في كعبها. أنا الغريزة الخام. الأظفار التي تهرش جلدها، وتنهش لحمها. الدم. الكريات الحمر والبيض. الحمر أكثر من البيض. خصوصاً عندما تتكاثر وتتضخّم. أنا الدورة الدمويّة تدور بالمقلوب.
أنا المنتحر أدناه...
للمرّة الأولى أتنفّس الصعداء. أرتاح.
للمرّة الأولى لست ضحيّة. للمرة الأولى لستُ متوتر الأعصاب في انتظار الانفجار الآتي.
للمرّة الأولى أنتصر على الهزائم.
تكفي نكبات. نكسات. إنقلابات.
تكفي اجتماعات. مؤتمرات. إتّفاقات.
تكفي أوراق تفاهم على عدم التفاهم.
تكفي حوارات عنوانُها النجاح المنطوي علناً وضمناً على الفشل.
يكفي أولاد يُدارون كالطواحين، يُحمَلون على الأكتاف كالطحين، تُباع دماؤهم كالماء.
تكفي أناشيد متصدّعة. قصائد متفجّعة.
يكفي تشييع. ترقيع. تمييع.
يكفي.
أنا المنتحر أدناه....
أنصب خيمتي أينما كان. على الجبل. على السهل. على البحر. أربض عند كلّ كوع. أمام المقاهي والملاهي. على السطوح، في الأقبية. بين الأزقّة، في وسط الطريق.
لا أحد يراني. لا أحد يمسك بي. أجيء مع الهواء. أسبق الهواء.
على كامل أراضيكم أشعل ناري. على الـ10452 كيلومتراً مربّعاً، ليصبح مكعّباً.
أفخّخ ما بقي من حياتكم.
وماذا أصلاً بقي منها؟
هذا الأمل الناشف، الضعيف، المُنهَك، المبطوح، المسلول، العَكِر، السامّ، المعقَّم، المكشوط، المغليّ، الملوَّث، المغسول ألوف المرّات، والمصبَّن حتّى اليأس.
أنا المنتحر أدناه...
أقف الآن في وسط الطريق، مستغرباً:
ذهابكم إلى أشغالكم كلّ يوم، يُعَدّ انتحاراً في مثل هذه الظروف الراهنة!
أولادكم الذين يستقلون حافلات المدارس وهم يودّعونكم من وراء زجاجها، ربّما لا يعودون...
تسرعون لاهثين في أيّامكم لتصلوا إلى آخر الشهر. ولا تصلون!
تتصبّبون عرقاً في زحمة السير الخانقة. هنا بالذات، يحلو لي أن أفخّخكم.
لكن قبل ذلك، بودّي إبلاغكم ما يأتي:
لقد أتّخذتُ اليوم قراراً نهائيّاً بالكفّ عن تفجير السياسيّين، حكّاماً ومسؤولين. أصلاً كيف كان مُتوقَّعاً أن يموتوا؟ أحزناً عليكم؟ أبنوبة حنين على شاطئ في انتظار عودة المهاجرين؟ أبسكتة تأمّلية على رأس جبل، أم في فم وادٍ، حُبّاً بالجمال؟
قتلهم لم يعد يجدي في شيء. اليوم أقتلكم أنتم. أنتم المواطنون العاديّون. المساكين. الأبرياء. أنتم الساكتون عن كلّ شيء. عن سعر البنزين. عن استمرار انقطاع الكهرباء. عن فاتورة الإشتراك. عن غلاء المعيشة. عن الرشوة. عن شراء الأصوات في الانتخابات. عن الاختلاس. عن الهدر. عن الدين العامّ. عن الفساد المستشري في المؤسّسات الرسميّة. عن الظلم. عن الحرمان. أنتم الساكتون عن الموت. اليوم أقتلكم أنتم. اليوم دوركم يا مساكين. أعرفكم جيداً. لا أحد منكم يتحرّك إلاّ إذا وصلت الموسى إلى ذقنه. في النهاية لا حلّ من دونكم.
أنا المنتحر أدناه، وأعلاه، وفي وسط الطريق...
لا أنا مسلم، ولا أنا مسيحيّ. لا علويّ، ولا درزيّ، ولا فارسيّ، ولا بوذيّ.
أنا لا شيء من هذا القبيل.
لا دين لي، ولا أنتحر حبّاً بشهادة. أصلاً لا أعتقد بجنّة ولا بنار.
لا أؤمن إلاّ بناري. ناري التي تأكلني ولا تشبع.
لا أنتمي إلى حزب، أو حركة، أو تيّار، أو تجمّع، أو نادٍ، أو حتّى إلى أخويّة "الحبل بلا دنس". كلّ ما يجري اليوم هو دنسٌ بلا حبل.
لا أنتحر في سبيل قضيّة، أو إيديولوجيا، أو مبدأ، أو عقيدة، أو قضيّة، أو هدف.
لا يتبنّى انتحاري أحد. لا داعش، لا جبهة، لا حركة، ولا قاعدة.
أنتحر كي أنتحر.
مجاناً. عبثاً.
سمّوا انتحاري بما شئتم من التسميات.
الأصحّ أنّي أنتحر لأسباب شخصيّة جداً.
لأوجاع شخصيّة جدّاً.
أنا انتحاريّ نفسي.
أفجّر نفسي لأرتاح من هذه الجحيم التي تحوطني.
من المحيط إلى الخليج.
مروراً طبعاً وأكيداً بالهلال الخصيب، المخصَّب بالأورانيوم.
أفجّر نفسي في نفسي.
أفجّر نفسي ملء نفسي.
كلّ يوم. كلّ لحظة.
أخيراً، أفجّر نفسي فلا يبقى منّي شيء. فقط قضيبي. طائراً في الجوّ. تتلقّفه حوريّات جميلات، جائعات. يغطّسنه بالعسل واللبن. يتناتشنه. إلى أن يقرّر تفجير نفسه. فتتطاير الحوريّات، ويعود كلّ الذين فوق إلى النوم العميق الطويل. والسلام.