قبل الولوج في مقاربة الأزمة الأوكرانية الراهنة، لا بُّدَّ من التذكير أنَّ شبه جزيرة القرم هي المنفذ الوحيد من البحر الأسود لروسيا باتجاه المياه الدافئة، وهي كانت سابقاً محط صراع تاريخي ... فمن الناحية الاستراتيجية يجثم الأسطول الحربي الروسي هناك، إضافة إلى وجود غالبية روسية تحظى بحكم ذاتي وحكومة خاصة بها، وهي بوابة الحدود الشرقية مع روسيا، ومن الناحية القومية، فالشرق فيها لروسيا، وغرب الجزيرة هو موالٍ لأوروبا. فمن أين نفذ الغرب إلى أوكرانيا؟. منذ استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي السابق وُقعت اتفاقات اقتصادية سياسية وعسكرية بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا، حظيت أوكرانيا بموجبها بامتيازات اقتصادية خاصة وعلى رأسها الغاز ودعمتها روسيا بقروض مالية ضخمة بمساعدة من الاتحاد الروسي، شريطة ضمان موقفها السياسي السليم مع موسكو، غير أنَّ هذا الأمر كلّهُ لم يلغِ النزاعات القومية لغرب أوكرانيا الموالي للغرب، وعلى رأسه أميركا وأوروبا والحلف الأطلسي ..  وأراد الغرب وأميركا تحديداً ردّ الصاع صاعين في مواضيع دولية وإقليمية مختلف عليها مع روسيا منها على سبيل المثال أزمة الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية ودخول روسيا كلاعب قوي في العالم يقاسم الولايات المتحدة المصالح الاسترتيجية الكبرى، إضافة إلى الأزمة السورية. وروسيا اليوم لن ترضى بقوّتها الاقتصادية الكبرى أن تكون لاعباً هامشياً، فهي ليست تابعاً كفرنسا أو بريطانيا، وما تصريح مستشار الأمن القومي للكرملين: أنه إذا فكرت أميركا بفرض عقوبات اقتصادية علينا فإن المتضرر الأوّل هو الاقتصاد الأميركي الذي سيصبح على شفير الأنهيار، إلا خير شاهد على ما نقول. وكذلك فإن موقف لافروف وزير الخارجية الروسي بأن التهديد بالعقوبات لن يغير موقف روسيا من الأزمة الأوكرانية، يدل دلالة واضحة على قوة الموقف الروسي. ولا شك أن هذه التصريحات إن دلت على شيء أيضاً فإنما تدل على حجم الاتفاقات الاقتصادية الموقعة بين البلدين "أميركا وروسيا" والتي بموجبها يتمتع الاقتصاد الأميركي بفوائد مالية عظمى والتي سيحسب لها الأميركيون ألف حساب، قبل اتخاذ أي عقوبات اقتصادية بحق روسيا. ومن البديهي أن أميركا اليوم غير قادرة على إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بشأن فرض عقوبات على روسيا بسبب الفيتو الروسي والصيني، هذا فضلاً عن عزوف عدد من الدول الأوروبية من المضي في سياسة العقوبات منها المانيا التي تعتمد في صناعتها على الطاقة الروسية بشكل كبير. لذا تمايز موقف ميركل ودعت إلى حل الأزمة الأوكرانية سياسياً. وبالحوار. وإذا ما استمرت أميركا في الضغط باتجاه العقوبات فإن روسيا ستضع الاتفاقيات مع دول "البركس" موضع التنفيذ، وخاصة مع الصين والهند اللتين هما بأمس الحاجة إلى الطاقة الروسية. ويمكن القول أن الحديث عن فرض عقوبات اقتصادية أميركية على روسيا يأتي في إطار من الضغط والتهويل حتى تتراجع روسيا عن الاندفاعة العسكرية، ولكن الرد الروسي جاء عبر إطلاق صاروخ عابر للقارات في الجنوب وكأنها تقول لواشنطن أن العالم تغير ولم يعد كما كان أيام غزو العراق وأفغانستان والتدخل الأطلسي في ليبيا ... وما كان ممكنا وسهلاً لأميركا في السنوات الماضية أصبح اليوم صعباً جداً بعدما دخلت روسيا نادي الدول الرأسمالية الكبرى ذات القوة الاقتصادية والعسكرية الثانية في العالم على الأقل مع القيصر "فلاديمير بوتين" وإذا كان النزال الأميركي الروسي على الساحة السورية قد بدأت تميل كفته لصالح روسيا، فكيف هي الحال إذا ما حاول الأميركي المساس بمصالح الدب الروسي في عقر داره؟ ولا بُدَّ  من لفت الانتباه أيضاً إلى أن روسيا قد تضرر إنْ هي اتجهت إلى الخيار العسكري في أوكرانيا، ذلك أنها تحاول منذ السنوات الثلاث الأخيرة أن تظهر أمام العالم بصورة الدولة التي تحافظ على القوانين والمواثيق الدولية على عكس ما فعلته أميركا في أكثر من منطقة في العالم، فهل تحافظ روسيا على هذه الصورة، أم أنها هي أيضاً ستقع في هذا الشرك الذي يبدو أنهُ يمثل اختباراً لها...؟ من هنا نرى أن الطرفين الأميركي والروسي سيتوصلان في نهاية المطاف إلى حل لا يكسر هيبة أميركا، ويرضي موسكو ولا يزعجها استراتيجياً واقتصادياً. فمصالح البلدين الإقتصادية تتقدم على ما عداها من أولويات لدى الجانبين.  أبو مجد رعد